إن علاقة المثقف الروسي بالدولة مهما كانت توجهاته السياسية، ظلت يطبعها نوع من الصراع والحذر، فالمثقف يشكل وعي الشعوب ولسان حالها، فهذا الفرد من المجتمع له القدرة الكبيرة على منافسة شعبية هذه الدول وتغيير وجهات النظر لدى شريحة كبيرة من الشعب، فتتغير نظرتهم إلى الأشياء ويتغير تفكيرهم، ويصبحون أكثر خطورة على الدولة، الأمر الذي لا تحبذه دول العالم عامةً، وحكومات الأحزاب الشيوعية والاشتراكية في المعسكر الشرقي بالاتحاد السوفييتي خاصةً.
تختلف دول الاتحاد السوفييتي التي كانت تحت الحكم الروسي في ثقافتها وتقاليدها وأفكار شعبها، بل وحتى تاريخها والسياسة التي كانت عليها قبل أن تخضع لهذا الاتحاد، وهذا الاختلاف طبيعي في البشر فهو موجود في نواح أخرى من العالم، ما خلق بيئة خصبة لولادة الأدب وتطوره بشكل كبير مقارنة بدول أوروبا الغربية.
وظهر نتيجة لذلك كتاب ومثقفون بفكر جديد وأفكار تنويرية جعلت العديد من دول غرب القارة الأوروبية تستقطبهم، لكن المأساة الحقيقية لصراع هذه الطبقة مع الحكومات والدول ظهرت جليًا بعد دخول الاحتلال النازي الألماني إلى هذه الدول، ومن بينها المجر وبولونيا، ثم تشيكوسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا، فقد كانت جل هذه الشعوب تحت رحمة هتلر الذي قضى على بلدانها، وأرسل الآلاف من نخبها المثقفة إلى سجون ألمانيا النازية ومعسكراتها في برلين، من مسيحيين ويهود ووطنيين قوميين، خوفًا من تحريض الناس على إفشال مشرعه التوسعي، وحثهم على المقاومة والمواجهة.
واتجهت هذه الشريحة التي بدأت في التوسع بالمجتمع السوفياتي للجوء طلبًا للحماية من الجيش الأحمر الروسي ظنًا منهم أنه هو السبيل إلى الحرية والخلاص من النازية الألمانية، فكان أعظم هؤلاء المفكرين يناصرون الحزب الشيوعي السوفيتي ويدعون الناس إلى التطوع من أجل المقاومة لأنها السبيل الوحيد لتحقيق الحرية.
وقد ضحى الكثير من هؤلاء المفكرين بحرياتهم ومواهبهم في سبيل بناء مستقبل مشرق تحت راية هذا الحزب الذي وجد فيه أفضل وسيلة لترويج دعايته السياسية، وما زاد حماسهم وتمسكهم به، هو الحرية التي تركها لهم، حيث كان لينًا في التعامل معهم الأمر الذي سهل له الوصول إلى سلطة الحكم، بحيث كان موقف الحزب سلسًا وإيجابيًا معهم إلى حدود العام 1948 وبداية 1949، حيث هذا الموقف سيعرف تغيرًا كبيرًا، وستنقلب الأمور رأسًا على عقب، ويخسر المثقفون الحليف الوهمي الذي ناصروه وضحوا من أجله، ومعركتهم في سبيل بناء أوطان قومية.
هذا التغير المفاجئ في علاقة المثقف بالدولة ولد صراعًا قويًا، إبان الانتقال إلى الفترة الشيوعية الثانية، أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبروز المعسكر الشرقي الذي بسط سيطرته على الأدب وحول الآلاف الكتاب إلى سجناء ومعتقلين، ولم يكتب لمرحلة الود التي جمعت الحمل بالثعلب أن تطول.
وبالرغم من أن أحلام الكتاب الروس بالاتحاد السوفيتي طالت نوعًا ما ولم تكن قصيرة كما في الدول التابعة لها، ولذلك كانت الخيبات أعنف وأعمق، بعد تسارع صعود الأنظمة الديكتاتورية القمعية بدول أوروبا الشرقية، فتم التضييق عليهم وإعدام الكثير منهم، فيما فر الآخرون إلى دول أوروبا الغربية كفرنسا وإنجلترا، ولم تستطع هذه الأنظمة أن تخمد نار الغليان الشعبي المشتعلة، بعد توالي سياسة القمع في حق هذه الفئة من المجتمع، وجر عليها ويلات الثورات التي لم تنته إلا بسقوط نظام الاتحاد السوفييتي.
لقد عرفت المرحلة الثالثة من فترة الشيوعية بعد وفاة زعيم الاتحاد السوفيتي جوزيف ستالين، غليان سياسي كبير في أوروبا الشرقية، بالرغم من الإفراج عن العديد من المثقفين والمفكرين، وما كشفوا عنه من معاناة فظيعة بالسجون التي حبسوا فيها، ولد لدى الناس في أوروبا الشرقية ودول أخرى كثيرة من العالم، نوعًا من الأمل في المقاومة والمواجهة التي أعادت للكتاب مكانتهم وهيبتهم وشجعتهم على روح الكتابة، مؤمنين أن حل الأزمة لن تكون إلا باللجوء إلى هذه النخبة من المجتمع.
أحس المجتمع الشيوعي بتحطم المبادئ والقيم التي دافع عنها طوال الوقت، وأنهم أصبحوا يعيشون في بحر من الدماء والدموع، جراء الغطرسة والتسلط وسلب حريات الشعوب، وأصيب الكثيرون منهم بنوع من الانهيار العصبي وانتحر آخرون، بينما انهارت أصنام آخرين كانوا مقدسين على سدة الحكم، ولم تعد لهم أي مكانة.
وأصبح الإنسان السوفييتي ينظر إلى ما أبعد من أنفه، لقد صحت ضمائرهم بعد سنوات من الجوع والحرمان والعار، والسجون التي ما عادت تحويهم، لقد اكتشفوا أن تضحياتهم في سبيل تحرير أوطانهم لم تولد المستقبل المنشود، وأن هؤلاء الكتاب أبرياء وجب مناصرتهم فهم في النهاية يكتبون من أجل مجتمع القيم النبيلة والعيش الكريم، من أجل الكرامة الإنسانية والحرية، ولا مستقبل للإنسانية إلا بتحرير العقول وتسليحها بالعلم، حتى تستطيع تجاوز الكذبة الخادعة والقاتلة التي ينشرها مستخدمي السلطة من المسؤولين.
لقد أصبحت بلدان أوروبا الشرقية تحت فوهة بركان الثورة بعد سنوات من الحكم الديكتاتوري الشيوعي الفاشل، حيث اندلعت ثورة ضد القومساريين الشيوعيبن، الذين كان ينظر إليهم على أنهم مجرد ممثلين لدول أجنبية أخرى، والمقصود هنا بهذه الدول هي روسيا التي كانت تحكم بشكل فعلي، وحكام هذه الدول الأوروبية الشرقية مجرد دمى يحركها الروس من موسكو.
تميزت تلك الثورات بطابع قومي، وهي نتاج علاقة المثقف الروسي بالدولة والتي انتابها عطب بالغ، وقد رافق هذه الثورة الكبيرة نداء المطالبة بالحرية الثقافية التي سلبها الروس، وضرورة الاستقلال القومي، فقد تم طمس هويتهم الثقافية والدينية والاجتماعية والأسرية، فكان شباب هذه الدول يتكلمون الروسية بطلاقة كتابةً ونطقًا، بعدما أجبروا على التخلي عن هويتهم واتباع تعاليم روسيا التي كانت تفرض إجبارية التعليم في المدارس، الأمر الذي رفضه المثقفون وعموم مجتمع هذه الدول.
وبعد تنامي وعي هذه الشعوب ورغبتها في التحرر وبناء أوطان قومية لها، كانت روسيا بدورها تعيش بوادر ثورة قادها الشباب المثقف، سميت بثورة الكتاب الروس رفضًا لموقف الحزب الشيوعي الحاكم من الأدب والثقافة، والتضييق والقمع الذي يمارسه هذا الحزب، الذي بات يتدخل في شؤون الكتاب، وقد كتب أحد هؤلاء المفكرين ويدعى “أهرنبرغ” في العام 1953 مقالًا يتحدث فيه عن هذا التضييق المبالغ فيه، في صحيفة “زناما” يقول: “إن اشتد الناشرين تدخلًا في شؤون الكتاب لم يكن ليجرؤ قبل الثورة على مجرد التقدم من تشيكوف باقتراح موضوع قصته التالية، وهل يمكن لشعور تولستوي أن يتلقى أمرًا بكتابة رائعته الفنية “آنا كارانينا” أو غوركي ليكتب “الأم”؟.
اغتنم الكتاب والمفكرين والمثقفين في كل رومانيا وأوكرانيا وصربيا وتشكوسلوفيا، فرصة هذه الظاهرة الجديدة من أجل نشر أعمالهم التي كانت تمنع من النشر أو تتم مصادرتها، لقد اتخذوا هذه الثورة كحجة لهم من أجل نشر ما يريدون نشره دون قيد أو شرط، وبدأ التخلص نوعًا ما من قبضة الحزب الذي كان يبسط سيطرته المطلقة على جميع دور النشر ووسائل النشر التي كانت تعود ملكيتها له، وكان الكاتب أو المحرر يخضع لرقابة صارمة من قبل القومسار، ما جعل الكثير من الكتاب يدخلون في معارك فكرية عنيفة مع هذا الحزب، قبل أن يتم نشر أعمالهم الأدبية من قصة أو رواية أو قصيدة، أو حتى مقالًا في مجلة أو جريدة ما.
لم يكن هذا الحزب الديكتاتوري يرغب في بروز نخبة من المجتمع تعارض مصالحه وأفكاره، لقد حرص دومًا على إنتاج نسخ متشابهة من الناس يناصرونه دون التفكير في ماهية الأشياء ومستقبلهم، والحقيقة أن هذا الهجوم العنيف من قبل الكتاب على الحزب القومساري كان متأخرًا نوعًا ما خاصةً في المناطق القريبة من روسيا، خلال الفترة الثالثة من حياة الاتحاد السوفييتي إبان حكم ستالين، وبعد موته كتبت بعض الأعمال في دول متفرقة بأوروبا الشرقية وكانت كلها في مواجهة الطغيان والدعوة إلى ضرورة التحرر، فمثلًا كتب “غوليا ايلس”، الشاعر الهنغاري المعروف قصيدته الشهيرة تحت عنوان “جملة واحدة عن الطغيان” في العام 1950، ولم يتم نشرها إلا بعد مرور ست سنوات 1956.
ضمير عبد اللطيف – مدينة الجديدة
اترك تعليقا