في القديم، كان يحل شهر رمضان ليتسابق الناس لأشياء. ولهذه الأشياء قيمة دينية ومنها: قيام الليل، ترتيل القرآن، التبتل إلى الله سبحانه وتعالى، الإكثار من الاستغفار، صلة الرحم وغيرها. ويشهد ذلك الشهر المبارك توبة صالحة من طرف العباد الذين يراجعون ذواتهم وأعمالهم. فينتهي بهم الأمر أناسا متطهرين من سوء الأعمال. ويصبحون أنفسا جديدة بعادات خيرة. وفي رمضان، ذلك الرمضان الذي اشتقنا له، لم يكن المسلمون يحضرون الولائم والموائد كأنهم قوم جياع لم يذوقوا النعمة لعصور. بل كانوا لا يتناولون إلا ما يسدون به رمق جوعهم وذلك حتى يحسوا بعذاب الفقير وترق القلوب. أوليست تلك الحكمة من رمضان؟ فرمضان ليس صوم المعدة عن ماء وطعام، بل هو امتحان للنفس البشرية حتى تتطهر من كل ما هو خبيث وتتقرب من الله سبحانه وتعالى.
ودارت عقارب الزمان لنصل للقرن الواحد والعشرين. قرن الجهل، قرن النسيان، قرن المعاصي، قرن الجوع، قرن التفاهة، قرن العري، قرن البخل في الأموال والأفعال وقرن النهاية. وتلك النهاية، سأتحدث عنها لاحقا فلكل شيءٍ ميعاد. ولنبدأ برمضان. الآن عندما يأتي رمضان للزيارة، يتعجب من الحال والأحوال. يتعجب مما آلت إليه الأمور. ويجد في الأيام التي تمرّ عليه بالدول العربية شيئا من الغربة التي تبكيه. فها هو قد قدم حاملا البشرى بالمغفرة، بالعبادة، بصالح الأمور. وها هم العرب يستقبلونه باغترابهم. ومع مرور السنين، لم يعد يعرفهم. أصبحوا غرباء. لكنتهم غريبة، أزياءهم أجنبية، أعرافهم جهنمية وصيامهم هو امتناع عن الأكل والشرب لا غير.
فبالنهار، يسمع الألسنة تنطق بغريب الأمور وأفظعها من كلام بذيء ونميمة وسبٍ وشتمٍ لا يعرف لغته. ويرى العربيات مكشوفات لا يسترهن سوى ثوبٍ رفيع يظهر انحناءاتهن ومفاتن وجب ألا تُرى إلا في غرف نوم الزوجية. وخالط أناسا من كلِّ صوبٍ ينسلون ومن الملاهي الليلية يخرجون. وعندما يسدل الليل ستاره، يراهم في الأزقة يهيمون باحثين عن فرسية جسدية يساومونها عن الثمن كبضاعة بالية. وفي العراء، ها هم يجلسون. وبكى… بكى بحرقة… بكى دمه العربي…. بكى لأنه يعلم أنه كريم عند الله فما ترى هؤلاء العرب به يفعلون.
وكان يخبر نفسه بأنه مع التطور التكنولوجي وكثرة الدعاة والمدربين والمعلمين والشيوخ والنساء العالمات والحجاج وغيرهم، سيرى ولو برامج توعوية، دينية أو إخبارية تشد بأمر القوم وتريهم الصالح من الطالح، الطيب من الخبيث وأنها قد تزرع في نفوسهم شيئاً من الصلاح والرشاد. لكن، هيهات… هيهات… وللويل ويلات…
مما سمع، فالكل يسنتكر للتفاهة العربية التي تملأ الشاشات الرمضانية. ومما شاهد، فالكل يشاهدها ويقبع أمام الإفطار أو بعده. ناهيك عن الخزعبلات التي تصدِّرها تركيا ويدبلجها العرب. أصبح العيش التركي والرومنسية التركية حلما، وما هو سوى سراب تسويقي، تسعى خلفه كل النساء العربيات. وهو ما خلق مشكلاًفي العلاقات لا الزوجية ولا في فترة الخطوبة. وأصبح الشعار: “لتكون رجلا، يجب أن تكون تركيا، مثل التركيين، بسيارات مشابهة ووسامة أسطورية”. وبدأت النساء يتصلن بالعشاق في الرابعة صباحا لترى إن كان مثل بطلها في الفيلم، سيسارع بطائرة خاصة، فيما المسكين يعمل مكتب بدوام جهنمي ولا يتقاضى سوى ما يسد رمقه، في تلك الساعة ويسألها عما بها محضراً لها شمعداناً من قصر الشاه. ورأى أن العبارة التي تتردد عند الإفطار، ليس الجماعي بل الدعائي، هي نفسها التي تتردد كل يوم عند مشاهدة التفاهة: “دعونا نرى هذه التفاهة لعلنا نهتدي منها سبيلا أو لعلهم يرفعون مستواهم قليلا”.
ولكن، ما أن ينتهي العرض، يجلس الكل أمام هواتفهم الذكية ويبدؤون في إصدار أصوات مزعجة وأنين تفرّ من وقعه الكائنات الحية، لكنه يجذب الكائن البشري الذي يرُدّ بالمثل. تتساءلون عما تحتوي تلك الدردشات الاستهلاكية؟ هي تهكمات وانتقادات مكبوتة لبرامج التفاهة. وهنا تطرحون سؤال العقلاء: إن كانت تافهة، فلم يشاهدونها؟ لا يشاهدونها فقط للمشاهدة، فهي تعجبهم وتسري في دمائهم وأصبحوا مدمنين عليها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فعقدة الدونية والنقص تقودهم لاقتناص أي فرصة من شأنها جعلهم محط اهتمام وإعلاء صوتهم من على منبر التفاهة.
وإن تكلّمت مع دمى التفاهة، يجيبونك بأنهم فنانون. عذرا بيكاسو، عذرا مايكل أنجلو، عذرا فان غوغ، لستم فنانين إذ كان عليكم رؤية الأباطرة العرب والتعلم منهم. وليس هذا فقط، بل رأى رمضان أن العرب يواجهون الاحتلال، الأمراض، الأوبئة، الحروب وكل شيء بالغناء. وها هو يشهد كورونا ويرى أن العرب بدل أن يبحثوا عن دواء للداء، نَظّموا كلمات راقصة وعارية من الحياء لجمهور عديم الذوق وبال الرداء إن لم يكن يبحث عن الخليعة في كل أداء.
ومن هناك، أدرك رمضان أن حال الأحوال قد تغيّرت للأسوء. وها هو يجمع زاده وعتادة ويودع المؤمنين منّا والذين لا زالوا متشبتين بحبل الله وعقيدته الإسلامية. وها هو يذرف دموع الأسى على أمّةٍ كانت عظيمة يوما، على أمّة كانت صرخةُ امرأة واحدةٍ تُحرّك جيوش المسلمين الألفية، على أمّة كرّمها الله بسيد الخلق أجمعين، محمد الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم.
وقال فيما يقضي بيننا آخر يومٍ له: أيا أمةً ضحكت من جهلها الأمم، أما آن الأوان أن تستردي نخوتك وشهامتك وعروبتك الضائعة؟
وتسألون عن نبوءات العرّافة؟ هي مصابة بالتخمة حاليا. فور خروجها من غرفة المستعجلات بمستشفى التفاهة، سأخيط أشلاءها وأقدمها لكم.
عبدالله الحمداوي – مدينة بني ملال
اترك تعليقا