خديجة الخليفي تكتب: مقصورة الذكريات

19 مايو 2020

رفعت رأسي المنحني وعيني المضببتين. رأيتني كأني أسرح بهما بعيدا. إنه هناك! رأيته هناك! لقد ميزته وعرفته. إنه هو! رأسه مدور، لن أتوه عنه مهما ضعف نظري.

بدا لي كضوء ينير ظلاما رماديا كاد يخنقني. كان الظلام لا يجتاح المكان فحسب! بل كان يحبك خيوطه العنكبوتية على جدران قلبي. تشبثت بالضوء، أمسكت به بكل ما تبقى لي من قوة. شعرت بابتسامة خفيفة هبت كنسيم صباح مشرق، داعبتني ثم غابت!

استأنفت عيني دموعها، شيء بصدري يحارب سعادتي، يجب علي ترتيب أوراق قديمة والاعتناء بها، ثم عدها قبل الذهاب إلى بيتي

كان فكري مشتتا بين حبين كلاهما مهم: أحدهما جزء مني بل هو أنا، تركته بالبيت وحان وقت إرضاعه، وثانيهما عملي!

انفجرت وبحت للضوء بكل ما كان يبكيني ويزعجني.

– سيدي، لقد أعلمت وأخبرت الكل أني لا أجيد العد، لم أحب يوما مادة الحساب.

–  لا تبك

– أشعر بقلبي ينكمش، مرهقة ومتعبة، ربما أغيب عن الوعي.

-اهدئي سيدتي ! لا شيء يستحق البكاء.

-قمت بعد الأوراق التي أكثر من مرة وكذلك الملفات التي تحتضنها، لكني في كل مرة أجد عددا يختلف عن سابقه، سأجن !

– هيا، قومي واذهبي لاستنشاق بعض الهواء النقي.

-حسنا سيدي.

غادرت المكتب لبعض الوقت، أمشي والخطوات تكاد تعجز عن الاستمرار وكأنها تمهد لشلل واستسلام غير جميلين. سمعت صوت كعب عال يقترب مني، إنه يتتبع خطواتي، لا شك أن صاحبة الكعب العالي انطلقت لتتفقد أخباري. ربما وصلها صدى بكائي!

أدرت رأسي، فإذا بها زميلتي! حضنتني كما لو كنت طفلة، كان مشهدا سينمائيا مؤثرا، لأن حرارة الحضن الذي أحسسته هو نفسه الذي كنت أراه في الأفلام ويشبه نسبيا حضن والدتي التي توفيت وأنا صغيرة. بقيت في حضن زميلتي حتى نام البكاء بدواخلي ورجع نسيم الابتسامة يداعبني من جديد.

كان كل شيء في يحتج ويرفض مادة الحساب، بل كان كل شيء في يرفض ذكريات الدراسة، كل شيء في كان يرفض ذكرى معلم! نعم، رفضت بكل قوة الرجوع إلى الماضي، عندما أضحك علي معلمي التلاميذ لما أخفقت في إنجاز عملية القسمة. لم يكتف صاحب الذكرى المؤلمة عند الاستهزاء، بل عاقبني وضربني.

قالت زميلتي: أرجوك لا تبك! لا تبك أبدا يا صديقتي،

وقفت لثانية أمام النافذة، سرحت في دواخلي. أدركت أن بداخل كل شخص طفل لا يشيخ أبدا، طفل يحمل دفترا ضخما في يديه، يسافر به عبر قطار، يوزع على كل مقصورة جزءا من الآلام والأفراح. كلما اضطر الإنسان للوقوف في محطة أو جلس لتفقد ذاته، نزل الطفل معه أيضا وقام بنفض الغبار على ذكرياته ومن تم جلس يسردها عليه.

رجعت مكتبي، استأنفت عملي، وضعت الملفات في الرفوف الخاصة بها وحلقت بعدها بعيدا إلى حضن رضيعي عمر.

خديجة الخليفي – مدينة سلا

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :