الهروب من الحياة تلو الأخرى يجعلك فى حيرة من أمرك، تسأل نفسك أياً من هذه الحيوات كان من المفترض أن تعيش، تحمل ذكرى سيئة لأحد الأماكن فتقرر ألا تطأها قدماك على الإطلاق من جديد، تفقد شخصاً عزيزاً كان فى يومٍ من الأيام على رأس قائمة المُحبين فتقرر ألا تقع في الحب ثانيةً، كنت دائماً أنت هذا الرجل الذي يُغرد خارج السرب حتى إن كان فى الاتجاه الخاطئ، فلا أنت الذي قرر الصمود والوقوف على قدمه مرة أخرى للعودة إلى القمة بعدما سقط بقوة إلى القاع، ولا أنت هذا الذى اثنى ركبتيه إلى صدره وقرر أن يبقي ف الاسفل إلى الأبد مع ذلك الظلام الدامس فى الأرجاء.
كنت دائماً أنت هذا الرجل المُرتَحِل، الذي لم يتخذ بيتاً على الإطلاق، الكل يعلم أنه مهما أطال البقاء فهو راحلٌ يوماً ما، وعند الرحيل ستقف على قارعة الطريق وتنظر إلى الخلف، ويكاد رأسك أن ينفجر من الأسئلة المتتالية التي تُشكك فى أهمية وجودك من عدمه، متى ستكون هذا الشخص الذي يُترَك مقعده خاوياً مهما أطال الغياب، فالكل يؤمن بأنه سيحضر يوماً ما، ليست بالمدة الطويلة حتى تكتشف فشل كل هذه المخططات التى قضيت فى إعدادها ليالٍ طوال كى تتفادى أن تلتقي بأحد ذكرياتك التى أدمنت الهروب منها، لك أن تتخيل أن كلمات أحد الاغانى التى تقوم بتشغيلها بشكل عشوائي كى تكون تكون رفيقتك خلال رحلتك على الطريق كفيلة بإفساد الأمر كله، ستدرك حينها أن خيار المواجهة كان هو الخيار الأفضل دائماً بدلاً من الهروب الذي أثبت فشله أمام بعض الكلمات ذات القافية الموحدة، ستدرك أن كل ما يتطلبه الأمر هى تلك الرحلة على الطريق.
على الطريق وُضِعَت أسطوانة أحد الأغانى الحزينة ، قليلة الكلام، هادئة اللحن، من النوع الذي تُؤثر الصمت فى حضرته، وتُطلق أذنك للاستماع، وذكرياتك للحضور، هل استطعت تلاشي شريط الفيلم هذا الذي بدأ بالعرض أمام عينيك؟ لا لم تستطع، كان كل شيء جلياً بالنسبة لك، هل يدفعك تذكُر الراحلين عنك بالبكاء؟ ومن لم يبكِ يا ولدى، ستتذكر الأيدي التى كانت تحتضنك عندما كان كل ما تأمله هو الشعور بالأمان ولكنها لم تعد هنا الآن، ستتذكر هذا الوجه الذي كان يبتسم لك ليُزيح عنك عبء الحياة والآن قد تُركت لتواجه الحياة بكل قسوتها وحيداً، ستتذكر ذلك القلم الذي طالما استطاعت كلماته أن ترسم السعادة على وجهك ولكنه الآن قد جف حبره.
رحل الكثير وتُرِكَ الكثير لم يرحل، هكذا هو حال الانسان فى تعامله مع الغياب القاتل، اينما حلّ وارتحل سيجد أحد الومضات التى لم ولن يمحوها الزمان، يقولون أن الوقت كفيل بأن يجعلك تنسي كل عزيز، وهل ينسي الإنسان من كان سبباً فى جعله يريد مواصلة الحياة أيها الحمقى، تسألنى كيف السبيل إلى النجاة إذاً، أنا والله أول من يحتاج إلى أحد يجيبه على مثل هذا السؤال، ولكن سأخبرك بما أفعله على أية حال، أتذكر بعض الذكريات السعيدة فأبتسم وكأنها تحدث أمامى ، أتذكر البعض الاخر الحزين فأبكى بكاءاً شديداً، أتذكر من جعلنى أرغب بالحياة ثم فارقها هو ، فأدعو أن يحين موعد اللقاء عما قريب.
على الطريق وُضعت أسطوانة أحد الاغانى الرومانسيه، التى يعلمها صاحبنا جيداً، وهذا هو سبب تلك الإبتسامة التى ارتسمت سريعاً على وجهه، ليست ابتسامة السعادة أو الحزن، ولكن على ما أعتقد أننى أستطيع أن أصفها بأنها إبتسامة العاشق الذي تَبَادر إلى ذهنه الكثير من الذكريات التى لم يطمسها الوقت أو ذلك القرار بالنسيان الأبدى، قد تحمل كلمات تلك الأغنية ذكرى لأحد الأماكن التى شهدت لقاء كان يسعى له كثيراً، ربما تلك الكلمات تحمل ذكرى لكلمات أخرى كان ينتظر طويلاً حتى يسمعها، شاء من شاء وابي من ابي، فالحب قادر على أن يجعلك تُحلّق إلى عنان السماء ولكنه أيضاً قادر على أن يطرحك أرضاً سريعاً.
الحب قادر على أن يجعل من الخيال واقع ومن الأحلام حقيقة، سيجعلك ترتجل من سيارتك وتبدأ بالغناء مع تلك الموسيقى التى أعادت كل الذكريات، وتبدأ بالرقص المتواصل حتى وإن لم تكن بارعاً به، ستظل فى تلك الحالة حتى آخر لحن يصل إلى أذنيك، ثم تتحول بعدها الإبتسامة إلى حزن شديد، ذلك الحزن الممزوج بالغضب والذي يجعلك حتى عاجزاً عن البكاء وأنت فى أشد الاحتياج له، هل هو حزن على قرار خاطئ قد أدى إلى الفراق، أم حزن على أنك كنت دائماً ذلك الشخص الذي يُعطى دون مقابل حتى صرت مُجرداً من كل شيء ، فلم يعد هناك شيئاً لتعطيه، حتى تلك المشاعر لم تعد هنا كى تمنحها لأحدهم، أياً كان فتلك الحالة التى كان فيها صاحبنا أتمنى ألا تصيب أحدكم على الإطلاق، ولن يستطيع أحد أبداً تفسير ما حدث وما سببه، فهكذا هو الحب، منذ اول كلمة قد كُتِبت فى وصفه حتى تلك اللحظة التى أُحدثكم بها يظل أحد أجمل وأغرب وأعظم المشاعر ، التى لم ولن نعلم متى وقعنا ضحيةً لها على الإطلاق.
أتعلم ما هو أسوء ما فى الأمر، ليست تلك الذكريات التى تهاجم مخيلتك على حين غرة جاعلةً ذلك الطريق أطول كثيراً مما تتخيل، ولكن الأسوء هو أن تسلك ذلك الطريق وحيداً بعد أن فقدت الجميع، لست فى حاجة لأحد كى يخبرك بضرورة العودة من حيث أتيت وأن هذا الطريق معلوم النهاية مُسبقاً حيث سيؤدى بك إلى الهاوية، أنت فقط فى حاجة إلى رفيق يجلس بجوارك ويُمسك بخارطة الطريق ، ورغم علمه أيضاً بالمصير المحتوم الذي ينتظركم ، سينظر إليك ضاحكاً ثم يقول ( إن كان لابد من ذلك، فلن أتركك تذهب إلى هناك وحيداً ).
محمود محمد فهمي – مصر
اترك تعليقا