تعتبر رواية ربيع قرطبة للكاتب المغربي الرصين حسن أوريد من أهم أعماله الروائية التي أماط فيها اللثام عن أشياء كثيرة تدور داخل القصور، تخص الحكام والملوك، إختار لها أن تكون في الفترة الزاهية من الحكم العربي الإسلامي للأندلس، كي تزهر وتنير بصيرة القارئ، تصحح المفاهيم وتقربنا من حياة الأندلسيين، البسطاء منهم وأصحاب الجاه والسلطان، من قرطبة أطل علينا الحسن بحكيه الرصين، ومن بديع وجمالية الزهراء ارتوينا برواء سرد تاريخي مثخن بالرمزية، عالج فيه مواضيع متنوعة وكثيرة، منها الهوية والتاريخ، الوجود ودوره في الحياة، ثم السلطة والجاه، ألغاز كثيرة تحملها الرواية، ودلالة عميقة تطبعها، حين يقول:”كمْ للتاريخ من ألغاز”، على لسان الحكم المستنصر بالله (ص 62).
المفكر المغربي حاول من خلال هذه الرواية الصادرة عن المركز الثقافي العربي سنة 2016، في 165 صفحة أن يقربنا أكثر من حياة الحكم والحكام، من أسرار البلاط الملكي إبان حكم عبد الرحمن الناصر وابنه المستنصر بالله، كاشفا أيضا أوجه الإختلاف ما بين الشخصيتين، سواء على مستوى الحكم أو العلاقات مع الرعية وباقي القوى الأخرى التي كانت تنافسهم في المنطقة، ثم يتطرق بعد ذلك إلى الحديث عن الجانب الإنساني الذي تميز به المستنصر في تعامله مع الكثير من الناس، وبعض القرارات التي كانت تتخذ داخل البلاط، والتي اجتمعت لتشكل تاريخ أمة إسلامية على أرض الإفرنج جمعت في حكمها ما بين القوة والقهر ثم الليونة والجانب الإنساني الصرف.
الكاتب المغربي حسن أوريد الذي يهتم كثيرا بالقضايا المتعلقة بالهوية والتاريخ، إختار لهذه الرواية أن تكون خلال الفترة الذهبية لحكم الخليفة الأموي الحكم بن عبد الرحمن الناصر الملقب بالمستنصر بالله، ثاني خلفاء بني أمية خلال فترة حكمهم للأندلس، حيث يبوح بكل الأسرار التي كانت سائدة في فترة حكم أبيه ثم المرحلة التي تقلد فيها الحكم، والإنسان عندما يكون على فراش الموت يون أصدق الناس ويعترف بكل ما يتعلق بحياته، لذلك آثَر الكاتب أن يكون السرد على لسان الحَكَم وهو عليلٌ يُقارعُ الموت من أجل أن يبُوح بكل شيء، من أجل أن تكتب مرحلته في كتب التاريخ، وتبقى وثيقة حية شاهدة على العصر الذهبي للمسلمين بالفردوس المفقود.
يحكي الخليفة المستنصر عبر فصول الرواية عن القرارات التي كانت تتخذ في حق الرعية والتي كان يؤثر فيها بشكل كبير مستشاروه والمحيطين به، ظلم الكثير من الناس، قتل المتظاهرين وقمع المطالبين بالحق، أبعد زميله الذي كان ينير له طريق الحق، وألقى بزوجة أخيه في جزيرة بعيدة وقتلها بعد ذلك، هذا الحكي الذي أخذ الليالي والأيام ليكتب في صفائح الكتب ويخلد إلى اليوم، لم يكن أحد يقدر على تدوينه أو سماعه إلا الكاتب الذي كان أقرب الناس إلى المستنصر، كاتب أمازيغي يدعى زيري الذي عايش الكثير من الأحداث التي كانت قد طبعت مرحلة حكم الحكم، في كتابة التاريخ مسؤولية عظيمة لا يمكن أن تسند لأحد إلا إذا كان قادرا عليها، تتوفر فيه شروط التدوين، الأمانة والإخلاص، ثم التمكن من اللغة العربية.
الجزء الأول من رواية ربيع قرطبة تحدث فيه المستنصر عن التربية الأولية التي كان يتلقاها داخل البلاط السلطاني، الأمور الرسمية التي كانت سائدة، الطابع الذي يميز الخدم والمسؤولين وتعاملهم مع السلطان، قربه من أبيه الذي كان يجهز لحمل الأمانة الكبرى، من أجل خلافته بعد موته، لقد تربَى ببيت الخلافة وهو يحمل هاجس السلطان وعِظم مسؤوليته، منذ صغره لم يعش طفولته كباقي أقرانه ولم تكن له الحرية في الإختيار، فهو محكوم عليه مسبقا بإتباع منهج السلاطين والملوك، فكان شاهدا في البداية على محاولات الإنقلاب على أبيه، مروراً بإقامة الحدّ على المتمرّدين باسمه وأمام ناظريه وهو ما يزال غرّاً صبيّا، ثم المواجهات العسكرية لحفظ أمن وهيبة الدولة، وانتهاءاً بالصراع المفتوح ما بين ابن عامر جعفر المصحفي حول السلطة بعد اعتلال الحَكم، وفي ذلك يقول السارد “أدركتُ منذ نعومة أظافري أني مُطوّقٌ بأمر جسيم، وكان لزاما عليّ أن أُهيّأ للإضطلاع بهذا الأمر العظيم”. (ص 27).
في ربيع قرطبة استطاع عبد الرحمن الناصر أن يؤدّب الحَكم المستنصر على مدارِج المعرفة والتعايش، ويربي فيه القيم النبيلة والمعاملات الإنسانية، لكنه كان حريصا على أن يتعلم قوانين الحكم أولا وقبل كل شيء، فكان يكلفه بمهام رسمية ويصدر أحكام مزلزلة في حضرته، يمنعه من أشياء كثيرة كان يحبها، لقد منعه من حب هند وزوجها لأخيه، فهم المستنصر عظم المسؤولية وجسامتها لذاك كان عليه أن يتحمل أوامر أبيه ويعمل بها، حيث دَرج على حبّ العلم وأهله، وزاوج الأديان والطوائف، ولم يكن متعصبا لأي منهم، خلال فترة حكمه عرفه الناس بحسن تعامله مع باقي الديانات الأخرى، وهكذا كانت الأندلس إبّان حكم مهداً العلماء المشارقة والمغاربة على حد سواء ومشْتلاً لِتلاقُح الصقالبة، القوط، البربر، المسيحيين، المسلمين واليهود، ما جعلها قبلة يقصدها الطلبة من مختلف بقاع العالم كله.
في الرواية أيضا والتي حملت العديد من الأوجه التي مرت فترة حكم المستنصر، سواء ما تعلق بالظلم والقتل والنفي، الخيانة والصراعات الداخلية التي كانت تدور داخل البلاط، لكن الجانب الإنساني هو الذي ميز حياة الحكم وطغى عليه بشكل كبير جدا، بكى لموت إبنه وبعدها احتضن الفتى المسيحي الذي جلبه من إحدى الحروب التي خاضها، ثم الحب الذي أظهره لهند والتودد الكبير الذي أبداه لها في الجزيرة، بالإضافة إلى الندم الذي أصابه جراء إبعاده لصديق طفولته بشكوال، مواقف إنسانية تكشف بجلاء البعد الإنساني الذي يميز شخصية الحكام بالرغم من التظاهر بالقوة أمام الرعية، فالحاكم يجب أن يكون قويا تخافه الرعية وإنسانا يرتدي جلباب الإنسانية.
لقد كان الحَكم مولعا بالشعر والمخطوطات، كغيره من حكام الأندلس، وقد خصص لذلك حيزا كبيرا من وقته وماله، فكانت تُقام مجالس الأدب وحلقات الشعر دورِيّاً في حضرته، كما عمل أيضا على جلب الكتب النفسية والكتاب المرموقين من المشرق ومن مختلف بقاع الأرض، كما ترجمت كتب كثيرة إلى اللغة العربية وغيرها، ثم إنه استطاع أن يجمع نفائس المخطوطات، من بينها كتاب “الأغاني للأصفهاني”، فرَبَتْ خزانته على أربعمئة ألف مخطوط، وتربعت قرطبة على العواصم العلمية في العالم.
إن أهم ما تميزت به فترة حكم المستنصر في الجانب العمراني، هو بناء المدن والمعالم التاريخية من جامعات وقصور، مكتبات ومساجد، ما تزال شاهدة على التفوق العمراني للمسلمين بالأندلس إلى اليوم، فعكف على تشييد واحدة من أجمل المدن الأندلسية، مدينة الزهراء التليدة كان تحت إشرافه، التي برع الصناع والمهندسين في تصميمها وبناء معالم على الطراز المعماري الأندلسي الإسلامي، كما بنيت مدن أخرى كثيرة حول قرطبة زينت المكان وأعطته جمالية وبهاء، يزوره السياح اليوم من مختلف دول العالم.
الرواية تمس جانبا آخرا من حياة الخليفة، الجانب العلاقات التي جمعته مع الأشخاص من حوله، فحياة الملوك على عظمتها لم تخلُ من كدر وحزن، وأخطار أيضا، فقد قُتِلت أخته أمام عيناه وهو طفل صغير خلال الإنقلاب على أبيه، أُبعِد عن محبوبته هند وهو شاب وقد ملكت قلبه، خسر رفيق حياته بشكوال، وفُجِع بموت ابنه عبد الرحمن، ثم تبدّت له خيانة زوجة صُبح من طرف معلم إبنه، يقتل الشاب المسيحي الذي أحبه كثيرا، تغلف الحقائق بالكذب في صدقها ويحكم على هوى ورغبة مستشاره الذي ظل يبعد عنه أهل الحق يتفرد به ويتلذذ في التنكيل بخصومه ومنافسيه.
جاءت الرواية التي وظفت شخصيات متعددة ساهمت في بناء الأحداث وتشابكها منذ البداية وحتى النهاية، عبر سرد بديع رصين مثخن باللغة الشاعرية البليغة التي يتميز بها الكاتب المغربي، الذي تمكن بشكل مميز من نقل معطيات تاريخية بطريقة سلسة ومنتظمة، بعيدا عن النمطية التي تطغى على أغلب الأعمال الروائية العربية.
وبذلك تكون رواية ربيع قرطبة رحلة تاريخية تربطنا بالماضي، وتكشف لنا عن فترة زمنية تاريخية محددة، قدمت لنا من خلالها نموذج الحكم والحياة التي طبعت حياة الأندلس، والجميل في الرواية العِبر المستخلصة منها، والتي تمكن الإنسان من فهم حاضره الذي يعيشه، والعلاقة التي تسود الحاكم بالمحكوم، دواليب السلطان وما يعتمِلُ في أنفس السّاسة من بطش وشِدّة، ومن ضعف وخوف على السواء.
ضمير عبد اللطيف – مدينة الجديدة
تحليل شامل أحسنت أستاذ ضمير