كنا في زيارة لأحد العروض التي تقام كل شهر في متحف المدينة، وفي كل مرة تبدي “ذات” تعلقها الشديد بكل ما هو قديم، و هذه المرة وقع اختيارها على قطعة قديمة اظنها آلة ما. لما اقتربنا اكثر، وجدت انها آلة الفونوغراف: قارئ الاسطوانات القديم، اتجهت نحوها بسرعة و هي تكاد تلتهمها بعيونها البنية الناعسة، و ما هي إلا لحظات حتى قالت بكل ثقة :” اريد اقتناءها بسرعة “. استسلمت لطلباتها ككل مرة واتجهت نحو صاحب المبيعات دفعت ثمنها و اكملنا مشوارنا في المتحف و هي تخبرني عن كل الاسطوانات التي تود تجربتها على هذه الالة.
مرت الآن خمس سنوات على فقدانها، لم اع ابدا ان تلك الجولة ستكون الاخيرة. في نفس الليلة وردني اتصال من اختها الصغرى “ملك” تخبرني ان ذات في المستشفى لسبب يجهلونه، لم انتبه كيف وصلت إلى المكان و لا بأي طريقة، كل ما كان يشغل بالي كيف حال نصفي الثاني ذات؟. اتجهت فورا للاستقبال لاستفسر عن الغرفة التي وضعت فيها، و ما هي الا لحظات حتى ظهرت ملك، هرولت نحوها :” ما الذي حدث؟ اين ذات؟” تكلمت بصوت باك:” لا نعلم، بعدما جئت بها للبيت، نامت و لما استيقظت وقعت على الارض و لم ننتبه كم بقيت على تلك الحال، و بسرعة احضرناها الى هنا لكن نتائج التحاليل لم تظهر بعد”، “حسنا و هل هي مستيقظة الان؟ هل يمكنني ان اراها؟”، “تفضل معي”. وصلت اخيرا، لمحتها عبر نافذة الغرفة، يا لها من ملاك، لم ارغب في ايقاظها، دخلت و جلست على مقعد ليس بالبعيد من سريرها و ركزت كل نظري نحوها، أراقب تفاصيلها اكثر من اي شيء، لم افهم شعوري حينها و لكنني احسست و كانني اراها لأول مرة. مر الوقت دون ان اشعر، دخلت ملك و والديها للغرفة، وقفت و حييتهما، و ما هي الا لحظات حتى دخل الطبيب حاملا نتائج التحليل؛ اخيرا سنعرف ما الذي يحدث لذاتي، و ما الذي ادى بها لهذه الحال رغم انها لم تشك يوما من شيء. نطق الطبيب اخيرا:” هل انتم اهل ذات؟” اجبنا بصوت واحد:” اجل”، اكمل حديثه قائلا:” لقد مر وقت طويل على مرضها، و في كل مرة احاول ان اجعلها تخبركم ترفض…” تكلمت والدتها و كأنها تجمع كل تساؤلاتنا في جملة:” كيف؟ منذ متى و هي تعاني هكذا؟ و ما بها بالتحديد؟” كان صوتها ينذر باقتراب نوبة بكاء، حتى اردف الطبيب :” منذ ثلاث سنوات جاءت ذات في سيارة اسعاف الجامعة، مغمى عليها، و بعدما قمنا بمجوعة من التحاليل تبين انها تعاني من التهاب الكبد الفيروسي، و قد كان المرض بدأ في التطور، بعدما صارحتها انهارت و هي تبكي بطريقة هستيرية، ثم صمتت لوهلة و اخبرتني ماذا يجب ان تفعل حيال مرضها و كيف تواجهه، شرحت لها كل شيء، و في ايام الفحص كلها كانت تأتي لوحدها، تجرأت مرة و سألتها عن عائلتها، لكنها نهرتني بسرعة و قالت انها لا تريد ان يقلقوا عليها، رغم انها كانت بحاجة للدعم المعنوي دائما”.
ساد الصمت لثوان ثم قلت:” و الآن؟ هل هي في تحسن؟ هل ستشفى قريبا؟” اطرق الطبيب رأسه في حسرة ثم قال:” ليس تماما، التحاليل الطبية تثبت أن المرض قد تطور كثيرا، و كبدها قد تشمع بالكامل، كما اننا لم نجد متبرعا يتوافق و انسجتها، و في كل مرة يكون املا ما، نجد ان هناك عوامل تمنع الزرع، كل شيء بقدر يا بني”، خيم الحزن على الغرفة حتى همست ذات بصوت خافت:” لا تخافوا علي، ليس بالضرورة ان تجدوا متبرعا،كل ما يهمني انني لم احزنكم طيلة الثلاث سنوات الماضية”، لم تتمالك ملك نفسها و اجهشت بالبكاء حتى اخرجوها من الغرفة؛ تقدم الطبيب نحوها قائلا:” تمسكي اكثر يا ذات، كنت و لا تزالين قوية”، ابتسم ثغرها بصعوبة و قالت:” يا دكتور سالم، انت و انا نعلم جيدا انها لحظاتي الاخيرة” لم يجد ما يقوله لها فخرج من الغرفة. مرت ساعات الليل ثقيلة و كل مشغول بأمر ما، امها لم تنهض من السجادة ابدا،تدعو الله من اجل ابنتها و تبكي من قلة حيلتها، اختها جالسة عند رأسها تبكي في صمت حتى لا توقظها، والدها لم يبق في الغرفة و اتجه نحو اروقة المشفى يتجول بينها عله يتناسى مصيبته، اما انا، كنت انتقل من موقع لآخر ربما احد متبرعا يتطابق مع ذات غير اختها التي لم تتمكن من ذلك لان ضغطها غير منتظم فلا يمكنها اجراء العملية. لا شيء، لم اجد شيئا، فخرجت مسرعا من الغرفة،و تدفق الكلمات في عيوني تحول لدموع لا تتوقف و انا اقف بلا حيلة امام فقدان زوجتي المستقبلية، توجهت لحديقة المشفى، جلست و سرحت بخيالي بعيدا و انا اتذكر لحظة لقائنا في الكلية، يوم خطبتنا، عقد قراننا، كل لحظاتنا حلوة كانت او مرة، فجأة تفطنت لتلك المرات التي كانت تخبرني انها تعبت و علينا التوقف للحظات، انتبهت لانتفاخ بطنها ظنا مني انها تزداد وزنا فاقوم بالضحك عليها، شحوب وجهها و اصفراره، تغير ملامحها مع مرور الزمن، نوبات البكاء المفاجئة… كلها كانت علامات كافية حتى انتبه لمرضها، لكن لم افعل.
“نضال اسرع ذات في خطر”، استيقظت على هذه الجملة، ذهبت مسرعا نحو الغرفة، ما ان وصلت حتى سمعت اصوات البكاء تتعالى في الداخل، لا ابدا، لن تنتهي قصتنا هكذا، لا يمكن أن تتركيني الان؛ دفعت الباب بقوة فوجدت وجهها مغطى بلحاف ابيض، ربت الطبيب سالم على كتفي و هو يردد:”عظم الله اجركم”، ماذا؟ من الذي مات؟ ليست ذات ابدا ليست هي!! كيف امكنها ان تتخلى عني بهذه السهولة؟ اتجهت نحو الفراش بعدم تصديق، ابعدت الغطاء عن وجهها، انها تبدو نائمة لكن بسكون و طمأنينة اكبر، امسكت يدها،انها باردة جدا، يا ممرضة شغلي الموقد، ذات بردت كثيرا، ذات هيا استيقظي، لم يتبق على زفافنا الا شهرا واحدا، بيتنا ينتظرك بفارغ صبر،حياتنا العائلية تتوق لاجتماعنا؛ انتشلتني يد من ورائي فجأة “نضال رجاء اتركها فقد رحلت”، لا يا ابي لن ترحل ابدا، لقد وعدتني بالبقاء.
اجل، وافتها المنية يوم كان سبب وفاتها الحب، لم تخبر احدا عن علتها بسبب حبها، خوفا علينا، لكي لا تحزننا،و حتى في لحظاتها الاخيرة كانت تدعي القوة حتى لا نضعف، لم كل هذا الحب ان كان سيؤدي بحياتك؟ لو انك لم تحبينا فردا فردا لكنت بيننا اليوم.
اترك تعليقا