أعوام ستّ وهى تأبى إخْلاص أكثر مِنْ حُبّ..
وذات شروق يومٍ عادى؛ تسمعُ المُنَادى.. يعلو بصوته:
ـ (كورونا) يتماسّ وظلال المُحبّين..!
وفى العاشقين كان هو الإمام.. ولكن بلا جَنْىّ ثمر.. ولا وَصْل أدنى بوح تماهى حُبّ.. وفى عنوة سُكات؛ تحرمه إجاب هسهسات ردّ.. تجذبه وتُدْفِسه عذابات انتظار وترقّب؛ وسط وسادة خاليْة.. مليئة بأنياب ومخالب..
وحول رواحها ومجيئها تحومُ رسائله.. مُذ عرف أنّها فى الغد آتية.. لم تقدّم أجازة مرضيّة ولا سنويّة.. وتتمنّع عن الحظر والكمامة والقفاز.. وليس بعيْنَيْها غَيْر تلذّذ إيلام من يُحبّها فى الله، وحُمرة خمر نَشْوَة مُنْتهى وَجْد..
ويعود.. ويعلو صَوْت المنادى:
– (كورونا) يعبرُ كُلّ مافى وَهَن جسد زَيْف.. لا يعنيه مشاعر كذب.. لا جَدْوَى مِنْ التصاقه بظاهر جمال وَهْم.. بدونه سُرْعان مايزول، ويتعرّى فضح أمر.. ووأد تفشّى فساد وظُلم..
فقط؛ نحو رطب ظلال صادق حُبّ هو.. هو يزحفُ..
وبأحرف حُبّه؛ يزيحُ مسافات (جِيبها) المائل.. أمامه تتأرجحُ بَـنْـدولاً.. يلاحقها بالتماسات وتنهّدُات تُزَاجلُها.. تُلاحقها.. وتتوهُ نغماته.. وتتكسّر قوافيه بمنتصف جدران تغلّفت بها.. حلم فردوس وخمائل.. ناء ماندولين عاشق؛ لم يخلف موعده أبدًا؛ ولحظة خروجها من العمل..
يغرقُ ويغرقُ فى زورقها اللا زوردىّ، لولا حُبًّا فى الله يرعاهُ.. وعلى الشطّ يرميهُ طوقَ نجاة.. يلعقُ وميض نجومها.. وغَصْب عَنْ؛ يبلّله زَبَد بَيْاض فرط هَيْامها.. و.. ولا يَجِفّ..
وعن تدفّق وتدافع مَوْج ومُرّ طَيْفها لا.. لايكفّ!
،،،،،
ولا يزل يتردّد الصّدى:
ـ (كورونا) يتكاثرُ على عتباب المُحِبّين..!
فى دهشة وإنْكار؛ تتساءلُ:
– أيصيب مَنْ يُحِبّ..؟
وماذنب مَنْ أبى ذاكَ الحُبّ..!
وتتهادى تسابيح شيخٌ طيّب؛ مذكورٌ فى كُلّ الأشعار ِوالأورادِ والأسفارِ:
– ظهر (الحوت) فى البرّ.. يأتى وعصف قذى ريح، وغَيْم ثقال ظُلمات أرْض.. لم نَعُد غَيْر أجساد.. أشباح تهيمُ بلا قلب.. كُلّ الأرزاق متاحة على الأرض إلا
إلا رِزْق حُبّ.. عطايْا الخاصّة.. وسرّ الربّ..!
أيها العبد الصالح إنه (حوت( البرّ..
لا جَدْوى مِنْ صلاة (وِتْر).. ولن يتنزّل علينا رَحَمات إجاب دُعاء (قنوت).. وبدير رُهبان؛ لا تراتيل كهنوت.. لا زفاف عُرس إبحار يخوت.. وانتهى زمن الأنبياء يابنت بنوت..
توت.. توت!
وتنادى عليه:
– وما ذنبى ولحُبّه قد أبَيْت..!
ويجرى الشيخ الطيّب؛ وهو يصرخُ:
– إلا رزق الحُبّ..!
سيّدتى إلا رزق.. هو أوْحَد حُبّ..
توت… توت!
،،،،،
ويُلاحقها الصَوْتُ الأجشّ المُخيف:
– (كورونا) يخترقُ قلوب العصافير، التى لم تتعلّم التغريد بعد.. يُلاحقُ الأرواح التى تجعل حياتنا غناءًا جميلًا..
تبطّرت على حُبّ مُسْتحيل.. روحه رُزِقت حُبّها، فعشقها فى الله..
ويخافُ يكون فى حُبه، ربّما أفرط فعصاه..!
نزقُ المُنى كان.. عَبْدٌ لهوى مِنْ الملائكة قد صُنّف..
لم يَعُد يدرى أهو عاشقٌ لها.. يعتكفُ وقَيْد مكانتها المتوسّدة بجنبات روحه، وذاك الحلم الأسمى بحريّة قطف التمنّى.. أم
أم هو فى الحُبّ متصوّف!
لله يركعُ ويسجدُ.. وفى تعسّف إباء حُبّه؛ هو الطفل الوديع، يلتمسُ الربّ منها أدنى إشارة؛ ولوشفقة مُكابدة طفولة حِسّ.. ليس له ذنب فى يُتم حرمان.. أو العيش توأم فقد..
وأيْضًا؛ هو صاحب الكبرياء.. الشاعر المتعجرف..
و بصلد جفاءٍ أشدّ من صدمة مَوْت تُمطرهُ.. وبغيْثِ نزفٍ يُسِل، ويغورُ وَجَع كُلّه.. حاضره هو أمس..
ولأول مرّة تدنو منه.. تُشِرُ.. تهمسُ:
– نعم..
آن الأوان أنْ نكون معًا.. وأكون كما تمنّيتنى.. آخر خَيار عُمْرى..!
و..
ولكن (كورونا) أسرع اليوم.. لم تمهل (الفعل)؛ يتعلّق بآخر حرف.. فاخترق ظلّهما..
وفى غدهما ـ أيضاً ـ كما لا يزل؛ سكن أمس..!
،،،،
لم يَعُد خارج المستشفى غَيْر صَمْت حَظْر مُطبق.. وشوارع خالية.. وخواء حَيْاء.. ويباب أنْفُس.. سَواد وكآبة قبور؛ كما هى طوال الأعوام الستّ بصباحات ومساءات حُبّه لها..
كلاهما فى مستشفى العَزْل.. وهو أنهكه تحمّل صخور بُعاد ودوام جَلد إباء.. جرحٌ يستعرُ دون اشتعال.. ولا تصاعد نيران..
توهن وتتهاوى مناعته.. خِرَقٌ بالية؛ لا تقاوم زخّات ندى.. وحَيْاة تتمزقُ قُصاصات ورق صفراء تقادمت.. و
موتٌ يقتربُ .. خطٌّ يتمدّد تحت إسمه فى كشف فيروس السّماء.. لم يخطأ.. ولم يتمهّل.. الصدرُ مفتوح.. ويتسع ويتسع لسهم البلاء..
بأفضل حال هى.. تتحسّن.. إباء وتمنّعُ ورفضُ الحُبّ جدار صلب.. يُكسبها قوّة ضد وجوده بحياتها، وضد آثار العدوى.. بُعادها عن حُبّه شرنقة حرير.. ورفضها لتوسّلات تعلّقه بها، ومحاولاته المستميته للثبات على حُبّها، أكسبها درع سلحفاة.. فهى من بُرْج (العقرب).. تحمل (سمًّا) به تتعالى وتحوم وتتدلّل وتحلّق وتَعِش.. وبه أيضًا لغيْرَها تقتل!
،،،،،
وتحكى قصّتها للطبيبة الشابة، التى تحلم بالحُبّ، وتُغْبِطها عليه.. ويرقّ حنين توق قلب.. وتطلبُ منها أنْ تسمح لها بأن تراه من خلف الزجاج، وهو فى غرفة العناية المركزة..
يرفضون توسّلاتها..
وأخيرًا
ربّما تكتشفُ أنها لا تريد أنْ تفتقده.. شئ ما يَعْنى رُبّما يكون أكثر مِنْ حُبّ..
رُبّما تقدّر مكانتها الأكثر من خاصّة.. والأرقى مِنْ حَيْاة بداخله..
حُبّه لها فقط.. بينما هو (شخصه) لم تُرده؟
ربّما ليس ذنبه..!
فى اتقانه لاصطياد فراشات الحُبّ الملونة لم يُعَلّمنى.. لم يأخذنى بجواره.. لم يشدّنى مِنْ تصلّب واقع.. لم يعذر عدم درايتى.. لم يتجاوز حدود ظلّى ليذيب برودتى.. دائمًا أسمعه يصرخُ:
(أنْت).. نعم هو (أنْت)؛ وهو يسير خلف ظهر.. وكلّما يدنو؛ يتركنى أتجاوزه..
وهو يغشانى محرابًا لدوران رياح إحساسه العاتى؛ جعلنى أدمن الصّمت طريقة مُثلى للعيْش..
على رصيف عشق جائح أنتظرُ أقماره.. وأهفو لحكايْاته ورؤايْاته.. ولم يطلب مِنّى يومًا مرافقته ورحيق وروده البيضاء؛ وهى تتطايْر حولى إغراءات لوعة وجاذبيّة اشتياق.. طفولة زهرة تفوحُ برائحة الفلّ والياسمين..
وتخبرُ الطبيبة الشابّة:
– فى حلمه الأخير لها.. وهو الحلم الثامن عشر.. خلال الأعوام الستّ؛ كما أخبرنى خلال رسائله لى؛ كان يرانى مستلقية بمستشفى.. من خلف سور زجاجى.. وينتظرُ مغادرة الزوّار.. فلا يكتشفوا مَدْى حُبّه لى.. كان يَخْشى يصيب سُمعتى بأدنى ضرر..
ويتهادى إلى حجرتى.. من حافة سريرى؛ يجرّ جسده المُنْهَك.. ويترك بضّ خده الطفولى يتهدّلُ.. وببطن كفّى يغفو.. بَيْن ضفتىّ المقعد يخرّ.. وبَيْن فخذىّ يتشكّل أوّل جنين.. وبرحمى يتكوّر طفلى الأوْحَد، وقد تجاوز عمرى الثلاثين بعامين..
وكنت أقول له:
– أنا لا أفهم فى الأحلام.. كم كنت قاسية عليه!
– أرجوكِ..
خلّلينى أشوفه آخر مرّة.. لن يرانى أحد.. ولكن ربّما هو يرانى.. و.. ويصفح ؟
ولكن الوقت قد فات..
كان يسأل عنك.. بَيْن فترات انتباهاته الأخيرة؛ ليس على شفتيه غير إسم إمرأة أعتقد هى (أنْتّ).. عليك يخافُ أكثر من انتظار موعد رحيله.. بَيْن جفنيه مستودع هموم؛ لا يُطاق.. كان مِنْ الرحمة أنْ يُفض به خارج الحَيْاة.. ومنذ وصوله المستشفى؛ لأوّل مرة تخونه قطيْرات دمع.. ويغلق عَيْنَيْه.. وتتسلّل اسفل الجهاز التنفس قبيل رفعه.. من يعرفُ الحُبّ لا يحمل إلا الصفح والعفو..
آخر كلمات الطبيبة، وهى تغادر غرفتها..
،،،،،
وهى تطلّ من شباك نافذة المستشفى.. وتعدّ حقيبتها للخروج.. والعودة للبيت.. وأكفانٌ مَجْهولة تتسرّب من باب جانبى..
لم يكُن هناك غَيْر بعض بيوت دون حُزْنٍ.. وصَوْت شَيْخٍ طيّب، مذكور فى كُلّ الأشعار والأوْرَاد والأسْفَار.. يبكى.. ويجرّ جسده النحيف.. يتكىء على عصا غليظة.. ويتأمّلُ فرخا صغيرًا؛ يحاولُ أن يتعلّم الطَيْران.. وبَيْن قضبان حديد ستائر رماديّة المَعْنى واللون لحُجْرة المستشفى يسّاقطُ.. ويوشوش نفسه:
– إلا..
إلا رزق حُبّ
تُوت.. تُوت!
……
أحمد الغرباوى – مصر
اترك تعليقا