من فوهة القبو دائمة الظلمة، زحفت على أربع. زحفت في بطء و تخاذل المريض المتهالك. مدت ذراعها على جدار البيت، اتكأت عليه لتقف في عناء تنظر إلى المارة و ينظرون عليها؛ تاركة تأوهاتها المتقطعة تتلاحق في وهن.
كان ذلك في احدى صباحات مراكش المشرقة بنور الربيع الصافي و الحياة التي تدب في الحوانيت المتوزعة هنا و هناك في الدرب و البيوت العتيقة المتلاصقة و السماء التي تعلو فوق الدرب سقفا من الزرقة الراقية. بدت واهنة شبه عارية متكئة على الحائط تطلب المساعدة من المارة غير مبالية بنظرات جاراتها الجارحة المشمئزة من وضعها الواهن. مضى يتجمع حولها جمهرة من المشاهدين و المشمئزين من وضع السقيمة، و لكن لافاطمة نهرتهم فتفرقوا سراعا. تلقتها جارتها بين يديها قبل أن تسقط فوق أديم الأرض عاجزة عن التماسك.
تناقلت الألسن بعدها خبر لالاعيشة التي أصيبت بمرض غريب تعدّى الطفح الجلدي الذي كسى جسمها ليصبح مرضا نفسيا صارت على اثره كالمجنونة بعد أربعين يوما على الولادة. سرت الشائعات على أن ذلك لعنة من الله عليها اثر الفساد الذي كانت تقوم به قبل زواجه من السي العربي. و قال آخرون ان ذلك سببه “الجْوادْ” الذي تجاهلتهم حيث لم تعد تنظم أية “دردبة” تمجيدا لهم بعد وفات والدتها سنة 2009. اما الشائعة الثالثة فمفادها ان السبب سحر من احدى أعدائها او عشاقها القدامى، أو ربما هي عين حاسد.
تكاثرت الأقاويل و الشائعات و كان فضول الجارات مهتاجا جدا.
اعترى كل من زارها من الأقارب و الجيران الذهول من رؤية المريضة. الكل كان يبكي معها و عليها لبؤس حالتها. و لهذا و كإجراء ضروري قام أهلها بدعوة فقيها من الفقهاء لمباركة البيت و طرد الأرواح الشريرة. و عندما لم تسفر رقاه عن شيء، تم المجيء بالطّلْبة لتلاوة ما تيسر لهم من القراءن. فما كان ذلك يزيد المريضة إلا تأزما و جنونا.
أوصت احدى الجارات السي العربي زوج لالاعيشة بإخطار “شوافة” بالشويطر، و كإجراء أولي أُخذ المريضة الى بيت “الشوافة” الساحرة لمعاينتها و معالجتها من السحر و المسّ الذي أصابها.
في مساء حلزوني حزين أخذ السي العربي زوجته للشوافة. ما ان عاينتها حتى بدأت المريضة بالصراخ و العويل. أشعلت الشوافة شمعتين بطبق به بخور و اشياء أخرى ثم وسّدت رأس لالاعيشة بكيس خيش به نخالة و ملح، و شدّت وثاقها إلى الحائط. أوقدت شمعا به كلمات سحرية و أخدت تردد بعض الجمل. تارة كانت تقطع تمتماتها و تجبر المريضة على ازدراد كسرة من القمح، و تارة أخرى تتمتم بصوت خفيض أسماء الملوك. و بعد ثلاثة ليالي على زيارة الشوافة ، كانت لالا عيشة قد تماثلت للشفاء.
بعد مضي أيام معدودات عن شفاء السقيمة، لمّحت احدى الجارات الحاسدات للالاعيشة إلى ملاحظة فظيعة، و قد اعترى وجهها حزن باهت ممزوج بابتسامة ساخرة ، أنها ان كانت قد تعافت فما ذلك إلا لأن الساحرة نقلت مرضها لرضيعها الذي لاحظت الجارة اصفرار سحنته وظهور شر غريب بوجهه يثير الخوف في النفس.
تأكدت لالاعيشة عن صحّة ملاحظة الجارة بعد مرور بعض ليال، حيث أصبح الطفل باردا فلم ينفع معه أي علاج عضوي.
في احدى الليالي الباردة زاد اضطراب الطفل و ذبوله. و عندما رمقت الأم أن طفلها لا يستيقظ أخذته الى بيت الشوافة الساحرة بالشويطر. كان ذلك في منتصف الليل، حاملة طفلها لوحدها تتوقف بين الفينة و الأخرى لتلتقط أنفاسها، ترتجف مرتعشة بسبب زمهرير الريح و برودة الليل.
دقت لالاعيشة دقا متتابعا على باب منزل الساحرة و ما ان فتح الباب حتى ولجت دون استئذان. و على نور شمع وجاق مثناثر على أرضية البيت كان يمكن رؤية بيت الجواد الذي كانت تختلي فيه الشوافة و تستقبل فيه مريديها.
ما ان ابصرت الشوافة لالاعيشة حتى باغتتها بالسؤال:
- هادي نتي.. ياك مكاين باس؟
أجابت لالاعيشة متنهدة:
- عاونيني ا لالا.. طلبي ليا الجواد يعاونو ولدي..
أجابت الشوافة:
- ولدك مات؟؟
- ولدي غير غاب انا عارفة …
صمتت الشوافة لثوان ثم نطقت موجهة حديثها لالاعيشة، ناظرة إليها بتمعن بعينين سوداوين ثاقبتين تبرقان ذو حاجبين كثين شديدي السواد:
- قاليك الجواد هادشي ماشي من عمايلهوم.. مايقدروش يعاونو ولدك..
خرجت الأم حزينة مكتئبة من منزل الشوافة حاملة صغيرها بين ذراعيها. كان الفجر على وشك الانبلاج و كومة من الغيوم تتفتت في زرقة السماء الكالحة و بدت الشمس ببهوت واهن تضيء قمم جبال الأطلس.
بدون مضيعة للوقت أخذت لالاعيشة ابنها تطوف به بين السحرة و الصالحين و الزوايا.. تستنجد كل من ادّعى بركة او قدرة سحرية .. و في كل الأماكن التي زارتها كان يسود الألم و يحكم الموت.
لم تتأكد من وفات إبنها إلا بعد انبعاث رائحة اللحم الميت و أصبح جيفة بين يديها.
بكت لالاعيشة بكاء مطوّلا، ثم بحزن عميق عادت إلى بيتها لتعيش بجوار جاراتها الساخرات الحاسدات.
عثمان الهاسوتة – أيت اورير
عن جمعية الشباب الواعد
اترك تعليقا