جلست أراقب الساعة الجدارية بارتباك كتلميذ يوم الاختبار، و عيناي محدقتيْن في عقربَيْها ، كانت تشير الى السابعة مساءً. أقلقني تأخر أبي بنصف ساعة عن المعتاد، توجهت إلى النافذة، كانت الشمس تودع بخيوطها الذهبية أرضنا فاسحةً المجال للقمر ليبدد الدجى.
سمعت قلقلة المفتاح في الباب، هرولت صوبه لأستقبل أبي كما أفعل كل يوم، وضع حقيبته الجلدية ذات اللون الأسود على الطاولة المستديرة في ذلك الركن الأيمن، ثم سألني بحماسه المعتاد ما إن كنتُ مستعدا لنخرج سويا كما ألفنا أن نفعل كل مساء، نجوب الأزقة المجاورة بدراجتي الهوائية، أنيستي و صديقتي الوحيدة. باتت كل الطرق تعرفني و كل المنازل تحييني و تواسي قلبي المكسور كسر القلل، بسبب نظرات الاستغراب و الشفقة من الصغير قبل الكبير، حتى النجوم و القمر يرأفان لحالي ويؤنسان وحدتي في غياب الأصدقاء الذين لطالما تهربوا مني لأنهم يخشون العدوى على حد تعبيرهم ، خاصموني كما خاصمتني الطفولة، و لفظتني الحياة كما يلفظ البحر الجثث، و أدار أقاربنا ظهرهم لنا مُخلفين في قلبي الصغير ثقبا أكبر من ثقب الاوزون نفسه.
بدأت معاناتي منذ سن الثالثة، حيث كنت بحاجة إلى اللعب و أقراني، لكن ذلك الطبيب الأشقر طويل القامة ذو العيون العسلية و الابتسامة التي تملأ قلبي طمأنينة، منع عني الخروج نهارا حيث شخّص حالتي على أنني أعاني من “جفاف الجلد المصطبغ” معوزا ذلك إلى صلة القرابة التي تجمع أمي بأبي. يلقبوننا بأطفال القمر، لأنه لا يضيء حياتنا فحسب و إنما يلهمنا التفاؤل في أقسى ليالينا، حتى لو كان نور الشمس أقوى منه، فهو لا يستسلم ليعود بنفس التوهج كل ليلة بأمر الهي. فمن نكون نحن لنقنط من رحمة الله!
مرضي هذا لم يحرمني من اللعب فقط بل أبعدني عن صفوف الدراسة في الوقت الذي يتمتع أقراني بهذا الحق، ربما الحقوق في بلدي لا تلبث ان تظل حبيسةَ دهاليز المواثيق الدولية و تُدَرس في المدارس.
المرتين التي أذكر أنني رافقت أمي فيها الى الحديقة نهارا بعد أن كان الجو ممطرا، كانت كل قطرة مطر تنزل كالبلسم على روحي و تجدد فيَّ أمل العلاج يوما لكن انقلب الطقس بقدرة قادر و بزغت خيوط الشمس كالسهام على جسدي النحيف، فتعرضي للأشعة الفوق البنفسجية يحرقه حرقا، عدنا أدراجنا الى المنزل مسرعيْن و الدموع في مقلتَي تتخذ أخذوذا على طريقنا، هذه الواقعة جعلت مرضي يتفاقم و لم أبرح الفراش لأكثر من أسبوع، صمت عن الأكل لخمسة أيام بنهارها و ليلها. فحرمتُ على نفسي مغادرة المنزل نهارا في غياب الملابس الواقية أو دواء فعال بحكم أن والداي فقيرين، فقط نعيش على أمل إيجاد جمعية تُولي اهتماما بأطفال القمر. ليس كتلك التي زارتنا منذ سنة حيث اطلعت على تقارير الطبيب و اخذت نسخة منه، واعدة إيانا أنها سترسلني للعلاج في الخارج و تركتني و والداي نتمسك بخيط الامل الضعيف ذاك و أيقنت أن سفينة مرضي رستْ على بر علاجٍ بعدما كانت قد تاهت في محيط الإحباط ، لنعلم بعد شهور أنها حصلت على دعم لعلاجي كما الشأن بالنسبة لحالات أخرى من مدن مختلفة من البلاد، و لكنها لم تعاود الاتصال بنا لنستفيد منه. كيف أضحت البشرية مجردة من ذرات الإنسانية؟ أي تفاعلات كيميائية حصلت فيها غيرت معادلاتها؟
توالت السنين و تعاقبت معاها أيام الأمل مرة و أيام التشاؤم مرة. الحياة غير متوازنة منحتني والدين صالحين يتمناهما كل الأطفال، راضيين بقدر الله، فزرعا في قلبي بذور الرضا بالقدر و القناعة، كنت أسابق أبي إلى الوضوء عندما يُؤذن للصلاة، حتى صلاة الفجر لم نفوتها يوما، لا البرد يستطيع ثنينا عنها أو تأخيرها إلى الصباح ولا قلة النوم تمنعنا..لكنها حرمتني الصحة.
لن أنسى ما حييت تلك الليلة حين سمعنا طرقا على الباب، كان أحد الجيران جاءنا خبر تعرض أبي لحادثة خطيرة، تنقلنا الى المستشفى لنكتشف أن أبي قد غادرنا الى حيث الخلود، مات السند، مات الأمل، مات القدوة، عقلي الصغير لم يستوعب بعد أن أفقد أبي.
كل شيء يا أبتي يذكرني فيك، تلك السجادة الزرقاء تسأل عنك و حقيبتك الجلدية اشتاقت إليك.. كل ركن في المنزل لبس السواد حداداً.
من سيصحبني يا أبي في جوالاتنا القمرية، أمي لن تفعل ذلك، ففي مدينتنا النساء يقبعن في بيوتهنّ بعد أذان المغرب، تكالبت علينا التقاليد و العادات البئيسة من زاوية و العوز من الزاوية الأخرى. وجدت أمي نفسها تبحث عن عمل في مجتمع النفاق، بلباسها الأبيض الذي يبدي كونها أرملة حديثا. لا تلقَ يد الدعم ممدودة بل فقط أيادي الاستغلال.
كنت ألعب، بينما أمي تحضر الكسكس ككل يوم جمعة عندما سمعنا طرقا على الباب، كانت سيدة ثلاثينية قصيرة القامة و لون شعرها البني المنسدل على كتفيها زادها جمالا، ابتسمت في وجهي عندما فتحت الباب على مصرعيه ثم طلبت رؤية أمي، قدمت نفسها على أنها من جمعية رعاية أطفال القمر، و أنها قد ٱطلعت على حالتي بعد عرضها على إحدى القنوات الالكترونية الوطنية، و أبدت استعداد الجمعية لإرسالي الى فرنسا لكي أتلقى العلاج.
يا أبي انا الآن في غرفة العمليات في الأراضي الفرنسية ،وربما سيتداوى جلدي لكن هل من دواء لجرح القلب الذي توغل فينا بعد رحيلك؟! كم أتمنى لو كنت معنا، تُهون من ارتباكي و تبعث في روحي التفاؤل بكلماتك. انقطعت يا أبي الشجرة فكيف للغصن أن يحيى. سأتمكن من مواجهة تلك الأشعة الفوق بنفسجية بالأدوية و الأقنعة و الواقي الشمسي لكن كيف سأواجه قساوة الحياة بعدك.
سمية حراز – مدينة بني ملال
اترك تعليقا