هن نساء مغربيات دفعهن شظف العيش وقساوة حالتهن الاجتماعية المزرية إلى ترك بلدهن والخوض في تجربة ركوب أمواج الهجرة متجهات نحو حقول منطقة “هويلفا” بمقاطعة الأندلس “جنوب إسبانيا” بعيداً عن فلذات أكبادهن وأزواجهن وأقاربهن. نساء مكافحات آناء الليل وأطراف النهار قسا عليهن الدهر ورمى بهن بين مخالب البؤس وأنياب الفقر. نساء قادتهن لعنة اليوروهات الزهيدة التي يتقاضونها إلى تقوّس ظهورهن لساعات طوال وهن يجنين فاكهة الفراولة عبر تضاريس حقول الضفة الأخرى. بعضهن سبق له أن خاض هذه التجربة والبعض الأخر يخوضها لأول مرة. معظمهن قادمات من البوادي وأحياء الصفيح المجاورة للمدن الكبرى في المغرب. جلهن أميات لا يعرفن لا القراءة ولا الكتابة، ولا حتى لغة البلد الذي يتوجهن إليه. تدني الأجور مع صعوبة العمل في هذه الضيعات يجعلان من المسئولين الإسبان يجدون في المغرب حقلا خصبا لاستقطاب هؤلاء العاملات، مستغلين ضعف وضعهن الاجتماعي والاقتصادي الذي يكابدونه في بلدهن الأم.
في هذه الضيعات لا يوجد فقط عاملات مغربيات، بل أيضاً عاملات من بعض الدول على غرار رومانيا وبولونيا وبلغاريا. لكن أرباب العمل يفضلون المغربيات على نظيراتهن المتحدرات من دول شرق أوروبا نظراً لتفانيهن في عملهن وخبرتهن في هذا المجال. فبفضل تفاني واستنزاف طاقة هؤلاء العاملات، اللواتي يقطفن كل سنة ألاف الأطنان من الفواكه، تمكنت دولة إسبانيا من احتلال مراكز جد متقدمة من بين الدول الأوروبية في مجال الفلاحة، خاصة فيما يتعلق بإنتاج وتصدير الفواكه الحمراء، والتي نجد على رأسها فاكهة الفراولة. هذا الأمر جعل البعض يطلق على هذه الأخيرة لقب “الذهب الأحمر بإسبانيا”.
وتأتي هذه العملية في إطار تنزيل اتفاقية اليد العاملة المبرمة بين الحكومتين المغربية والإسبانية سنة 2001. منذ ذلك الحين تعرف الحقول والمزارع الإسبانية قدوم آلاف العاملات المغربيات، خاصة في الفترة الممتدة بين إبريل “نيسان” ويونيو “حزيران”. ويشترط أحد بنود هذه الاتفاقية على العاملة المغربية أن يتراوح سنها ما بين 21 و45 عاماً، وأن تكون لديها القدرة البدنية على ممارسة هذا العمل، كما يتعين عليها أن تكون متزوجة ولديها أطفال، وذلك حتى يتم ضمان عودتها إلى المغرب بعد انصرام موسم الجني.
نعم، هؤلاء النساء يذهبن إلى تلك الضيعات بغرض العمل، لكن في عيون أرباب عملهن هن مجرد مومسات، يمتهنَّ فلاحة جني الفراولة في النهار ويمارس على بعضهن الجنس القسري في الليل إن هن أردن الاستمرار في العمل. فكل من امتنعت عن إرضاء النزوات الحيوانية لهؤلاء “الأسياد” يتم تعنيفها وطردها من إسبانيا والعودة بها إلى المغرب، بالإضافة إلى إسقاطها من لائحة العاملات اللواتي سيتم استقطابهم في الموسم الفلاحي اللاحق.
هي انتهاكات وجرائم متكاملة الأركان تم نزع الستار عنها حينما اختارت العديد من النسوة كسر جدار الصمت والكشف عن معاملات وحشية اتجاه العاملات وتعرضهن للابتزاز الجنسي من طرف المكلفين بإدارة هذه الحقول، الذين تجاوز جشعهم وشهيتهم الأرباح الضخمة التي يراكمونها على حساب عرق أجساد هؤلاء النساء المغربيات إلى ممارسة أبشع أنواع الاستغلال والاستفزاز والمضايقات والتحرش الجنسي، بالإضافة إلى عمليات اغتصاب. هذه التصريحات تم الإدلاء بها في بعض المنابر الإعلامية (جرائد إسبانية مثل “إسبانيول” و”الباييس” وغيرهما) لتكشف لهيب الجحيم الذي تكتوي به العاملات المغربيات وحجم المؤامرات التي تحاك داخل ضيعات الفراولة. وبفضل هذه التصريحات تم فضح أحد الفصول الأكثر مأساوية في مسلسل العبودية المعاصرة والرق الحديث في القرن الواحد والعشرين.
تبعات هذه الانتهاكات لا تفارق هؤلاء العاملات وتظل لصيقة بهن طوال حياتهن، خاصة فيما يتعلق بالجانب الصحي، فجل هؤلاء الموسميات المغربيات العاملات في حقول الفراولة الإسبانية مهددات بالإصابة بأمراض خطيرة جدا، والسبب هو أنواع المبيدات الكيماوية الخطيرة التي تستعمل في تلك الضيعات. لذلك فتعرضهن المستمر لقدر كبير من المبيدات الحشرية يجعلهم عرضة للعديد من الأمراض التي يصعب علاجها لاحقا.
هذا الأمر يجعلني أستحضر معطى تاريخيا يتمثل في الحرب التي أطلق عليها بحر “الغازات السامة” (حرب الريف: 1921- 1926) والتي خاضتها الحركة التحررية بالريف ضد الإسبان من أجل مناهضة الاستعمار. إبّان هذه الحرب قام الجيش الإسباني بمباغتة المقاومة الريفية بقيادة الزعيم العظيم الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي مستعملا الغازات السامة وأباد بذلك آلاف المواطنين المغاربة، خارقاً قواعد الحرب المتعارف عليها دوليا والمنصوص عليها سلفا في عدة اتفاقيات (اتفاقيتي لاهاي لعامي 1899 و1907 واتفاقية فرساي 1919) منعت بشكل صارم وقاطع استعمال الغازات السّامة. إن استعمال هذا النوع من الأسلحة السامة كان ولا زال من بين العوامل الرئيسية في انتشار مرض السرطان في المنطقة الشمالية للمغرب.
صحيح أن الظرف الزمكاني يختلف، لكن سياسة التسميم والإبادة تبقى كما كانت عليه في السابق، حيث لجأت القوات الإسبانية في الماضي إلى استخدام هذه المواد السامة بطريقة مباشرة بذريعة الحرب، أما اليوم فهي تشن حربا غير مباشرة محشوة في جلباب توفير “العمل” للعاملات المغربيات في اتفاقية يمكن أن نطلق عليها أنها اتفاقية “الإتجار بالبشر” صادقت على بنودها الحكومتان المغربية والإسبانية.
فهل يقبل الإسبان أن يشتغلوا في مثل هذه الظروف؟ بالطبع لا، حيث نجد أن نسبة البطالة في إسبانيا قد بلغت ذروتها خلال السنوات الأخيرة، خاصة عندما اجتاحتها الأزمة الاقتصادية سنة 2008، ومع ذلك فالمواطن الإسباني لا يقبل أن يشتغل في مثل هذه الأعمال والظروف اللاإنسانية، فهو يفضل أن يظل عاطلا عن العمل طوال حياته على أن يوقع على عقد عمل يرضى به فقط عِيال الضفة الجنوبية.
أتعجب كيف لدولة مثل إسبانيا التي تدعي الديمقراطية وكونها دولة الحق والقانون أن تحدث فيها مثل هذه الانتهاكات اتجاه هؤلاء النسوة! كما أتعجب كيف وقَع المسؤولون المغاربة في هذا الخطأ الذي لا يغتفر بتوقيعهم على عقد تشوبه العديد من الثغرات التي تتمثل في الأجر البخس الذي يدفع لهؤلاء العاملات مقارنة مع عملهن الشاق، بالإضافة إلى غياب حقهن في التقاعد والتغطية الطبية وغيرها من الانتهاكات الجسيمة التي تمتص دماءهن وتسرق أعمارهن! فتمعُّننا أكثر في بنود هذه الاتفاقية يجعلنا نستنتج خلاصة مفادها أن هذا التعاقد هو أقرب إلى عقد السخرة والعبودية المؤقتة منه إلى عقد عمل كما هو متعارف عليه دوليا في ميدان العمل. هذا التعاقد لا يصون كرامة هؤلاء العاملات ولا يضمن حقوقهن، ما يجعله في تناقض تام مع الاتفاقية الدولية الخاصة بحقوق العمال والمهاجرين.
إن السبب الرئيسي وراء كل ما يحدث لهؤلاء النسوة هو غياب سياسة قوية ومدروسة وواضحة المعالم اتجاه الطبقة الشغيلة على وجه الخصوص، والطبقة المستضعفة عموما في دولة أصبح فيها نهب المال العام والكذِب عل المواطنين عبادة يومية. فكثيرة هي الخطابات والوعود التي يتشدق بها ساستنا في المنابر الإعلامية والمقابلات التليفزيونية من إدخال إصلاحات جذرية في كل القطاعات، تضمن كرامة وعيش المغاربة في ظروف إنسانية على هذه الأرض السعيدة، لكن يبقى والوفاء بها وتطبيقها على أرض الواقع حلمًا يراود جيل تلو الأخر. تَرَدّي هذا الوضع أتلف شبابنا بوصلته وجعلها بلا اتجاه محدد، بل أصبح لاحول ولا قوة له، فاقد الثقة بنفسه وبمن حوله.
إبراهيم فاكر – مدينة فاس
اترك تعليقا