ادلف الى السوق، انه مكتظ كعادته، اتفادى الاصطدام بأناس من دوي البنية الضخمة بحركات خفيفة، انسدل بينهم بسرعة كبيرة وعيناي الحاذقتين تركزان على موقع سي مبارك، يستقبلني في كل مرة بابتسامة عريضة ويسألني بعدها عن حالي، اجيب بحكمة كبيرة، تعاود البسمة طرق محياه، يستغرب من نضجي المبكر، يسألني: كم تريد؟
اجيب عشرون كيسا بلاستيكيا، لم أكن ادفع له في الحال بل عقدنا اتفاق سلفا على ان ادفع له بعد انتهاء يومي في السوق، يوافق على مضض و يقول: اثق بك و اعلم أنك ستأتي لي بمالي عند انتهاء البيع، أنت رجل صغير، اتمنى لك ان تبعيها كلها و ان لا تبقي على احداها، أشكره و اقصد الباب الجنوبي الذي يقود إلى سوق شعبي لبيع السمك، و في طريقي اليه الزم نفسي بأن ابدو بنظرة حادة قاسية لكي لا يتجرأ علي من هم اكبر مني سنا و يسلبونني كل ما أملك ( اكياسي البلاستيكية و بضع قطع نقود اغلبها نحاسي)، كنت ضئيل البنية و فتي العمر لذلك كنت معرضا اكتر من البقية للشتم و الضرب من أولئك الدين يعتبرونني منافسا لهم في الحرفة، أتموقع بوسط السوق لأكون اقرب لأي شخص متبضع ينادي (ميكة) ما أن تنطلق هذه العبارة من حلق احدهم حتى ترى مجموعة كبيرة من الأطفال يهرولون نحوه، و من يستطع الوصول إليه أولا فقد ضمن 20 سنتيما كربح عن تجارته البسيطة، ينتشي, ينظر الى أقرانه بنظرة من حقق انجازا غير مسبوق، و يمكن أن ترى نظرات الحقد و البئس و الضغينة في عيني الأخرين، كلما بعت اكياسا اكتر كلما ازداد علي الضغط كنت أخشى أن يتطور الأمر و يصل الى حد ان اتلقى ضربة غدر بأذاة حادة من احدهم او ان اتلقى ضربة مباغتة بأذاة صلبة على مؤخرة رأسي، يسود السوق جو من الغليان و التوتر تصدح الحناجر في كل مكان بعبارات شتيمة، لا يمر يوم مرور الكرام فإذ لابد من حصول شجار كبير ينتهي في الغالب بسيل من الدماء، أحاول التهدئة من روعي على مضض، اتجنب قدر الإمكان الدخول في صراع ما احدهم لكي لا أقع في شركه و اجبر على مصارعة مجموعة عوض واحد، أغلبهم اصدقاء أبناء حي واحد و إذا مس الضر أحدهم فقد مسهم كلهم، كنت اعلم أنا الدخول في شجار مع مجموعة ليس بالقرار الصائب أبدا، لخبرتي هناك استطعت تمييز اذا ما كان للشخص اصدقاء خلفه يدعمونه دون أن أراهم وذلك من خلال طريقة كلامه فقد له معارف او أصدقاء في السوق تجد يتحدث بلهجة صريحة و باندفاع كبيرين دون تردد، ينتهي يوم بيعي باقتراب غروب الشمس، انتهي، اعود الى سي مبارك، ادفع له ما يدين لي به، اتفقد الباقي 6 او 7 دراهم لا يخرج الأمر في الغالب عن هذا القدر إلا في حالات استثناء قليلة، انطلق في غبطة و سرور باتجاه حبي الأول، كنت مولع لحد الجنون بفن الحلقة، اقطع مسافة ليست بالبعيدة عن السوق، أحاول تبين موضعها من بين حشد كبير من المارة، اصنع لنفسي بصعوبة بالغة مكان اقرب إلى الحكواتي السي الغنيمي و لو تطلب مني الأمر إزاحة ساق رجل لكي امر، يأخذني في سفر مجاني بحكيه الدقيق، له نبرة صوت و طريقة إلقاء تنفصل بهما روحك عن جسدك ليجعلها تهيم على وجهها بعالم متخيل مبني على حكايات أسطورية في غالب الأحيان، اتسامر بقربه لساعات، كثيرا ما وجدت نفسي أغفو بقربه لكن لا يطول الأمر طويلا حتى يوقظني شخص بصوت جهوري قادم من ركن من أركان الحقلة، كانت لسي الغنيمي حمامة يأمرها بأن تحط على رأس متفرج من المتفرجين تنفد اوامره بدقة متناهية، يطلب منها ان تنتقل إلى رأس كل واحد من المتفرجين بشكل دائري، انتبه الى ردة فعل كل شخص تحط على رأسه، أرى في عينيه لمعان و بريقا مصدره الغبطة و السرور لأنه و بحسب السي الغنيمي ان من حاز شرف وقوف الحمامة على رأسه أغناه الله و يسر أمره، الحمامة مباركة و تجلب الرزق هذا ما كان يقوله، في كل مرة اراقب الحمامة و هي تقترب مني بشكل دائري، كلما اقتربت يزداد تدفق الأدرينالين في جمسي، أشعر بسعادة غامرة و اقول لعل اليوم يكون يوم حظي إلا أنها تجتازني كما في كل مرة و تحط على رأس الشخص الدي بجانبي، امتعض، اغضب، العنها في سري لتبجحها، و اقول في قرارة نفسي، لماذا تستبعدني، لربما لأنني قصير القامة باعتباري طفلا، ربما لم تلاحظني و ركزت على من هم بجانبي، اعود الى المنزل و كلي امل في تحقيق حلمي ذاك، كان هاجس بالنسبة لي، و في اليوم الموالي ارتأيت عدم دهابي إلى السوق لأتفرغ لحضور الحلقة من بدايتها، كنت مولع بها لحد لا يصدق، قصدت المكان الذي يلازمه “سي الغليمي” كل مساء، وجدته فارغا، جلست انتظره، لم يذم الانتظار طويلا حتى اتى، توقف بقربي وضع حقيبته على الأرض و سار يستخرج منها عدته ( حصير بالي، شمعتان، صور له و هو صغير، وثائق إتبات لهويته إضافة إلى الحمامة) كان هذا كل شيء، نظر لي بنظرة تمعن و قال:
– هل كنت تنتظرني؟
قلت:
نعم كنت انتظرك، أحب ما تقدمه.
– ابتسم و قال: جيد يا صغيري، آ يمكنك أن تأتيني بحجرات متوسطة القد لأتبت بها الحصير.
حركت رأسي بالإيجاب، احضرتهم في الحال، مددتهم لهم وقلت بتردد:
“سيدي الغليمي”، أريد أن أطلب منك طلبا بسيطا.
– تفضل فأنت الآن صديقي.
في كل مرة تطوف الحمامة على رؤوس الحاضرين، تتجاوزني لتقف على رأس الشخص الذي بجانبي، ذلك يجعلني امتعض.
– ا هذا فقط ما يقلقك؟ لا تقلق سآمرها بأن تحط على رأسك حالا يا صغيري، اخرجها من قفص متوسط الحجم، و قال: فلتقفي على رأس هذا الفتى و أشار إلي، رأيتها تتقدم نحوي، حطت على رأسي، شعرت بشعور غريب و جميل في الآن ذاته، نظر الى و الابتسامة تعلو محياه و قال:
– هل انت سعيد الآن.
اجبت
– نعم، شكرا جزيلا لك.
لازمته إلى أن انتهى ثللك الليلة، عدت الى المنزل، طرقت الباب، فتحت أمي ما إن تجاوزت العتبة حتى سرت اطوف بكل أرجاء المنزل مسرعا وأردد:
ماما، ماما، لقد حطت الحمامة على رأسي لقد حطت.
محمد الودير – مدينة أسفي
اترك تعليقا