عن الرجولة و أشياء أخرى.
في سنتنا الثالثة من الدراسات العليا، غصنا في عوالم دراسات الجندر، مستعيرين نظريات الباحثين في هذا المجال لنقد الأدب و الفن. فحصل أن تم تأطيرنا لدراسة قضايا المرأة فقط و تمثلاتها في الأدب، الشيء الذي أعادنا لدراسة مقالات لباحثين غربيين في الثمانينات و التسعينات غاضين النظر عن مقالات معاصرة تناقش مواضيع مختلفة أكثر راهنية. تردد البروفيسور المشرفة على تأطيرنا أن هذه المواضيع و المفاهيم المعاصرة هي مفاهيم فضفاضة على مجتمعاتنا العربية و انها تحصل في الغرب بعيدا عنا. تضيف انه اقترح من طرف جامعة اوروبية مقترح تدريس دراسات و نظريات المثليين Queer Theories، و دراسة الأقليات Minority Studies و الجندر بشكل عام، لكنها قوبلت بالرفض، نظرا لأننا – تقول- لم نعالج بعد اشكالية المرأة حتى نغوص في مفاهيم فضفاضة “مستوردة”.
هذا السؤال ذكرني ايضا بأستاذ آخر قال: كيف نتحدث عن “ما بعد الحداثة” و نحن لم نحرز “الحداثة” بعد؟
لكن المتفحص الناظر للمشاريع النسوية يلاحظ بوضوح انها ناضلت – و مازالت تناضل- من أجل علاقات أكثر مساواة بين الرجل و المرأة، لكن تطور هذه الدراسات لما يسمى دراسات الجندر Gender Studies “قدّم بعض المسوّغات للتفاءل بأن الرجال يمكن أن يتغيروا و أنهم يتغيرون فعلا” (الرجولة المتخيلة اعداد مي غصوب و أيما سنكليرويب، دار الساقي، الطبعة الأولى 2002). و أن المجتمع الرجولي ليس متحجرا كما كان يبدو بل انه يتغير مع موجات التحرر و الحداثة. ربما أضفت الحركات التحررية الإستقلالية بعض الإلتباسات على اشكالية الجندر. حاولت نفض الغبار عن الهوية المطموسة لمجتمعات العالم الثالث الذي كان تحت وطئة الإستعمار. هذا الأخير الذي قدّم نموذجي المرأة و الرجل الأوروبيين “المتحررين” و “الحداثيين”. و بذلك، انساقت تلك الحركات إلى التمييز عن الثقافة الأوربية الإستعمارية، حاملة عنصرا تحديثيا لكنه متمسك بالماضي و متشبث بقيم الهوية. هذا التناقض الصارخ في نظر مي غصوب هو العنصر المميز لعلاقات الجندر و تطورها في مجتمعات العالم الثالث. في المغرب مثلا، ادى التناقض الواضح لتحديد هوية وطنية واضحة المعالم بعد الإستقلال إلى تمييز نوعي بين “المرأة المغربية” و نظيرتها الأوربية. و عليه، ادى هذا التركيز إلى غض الطرف عن تعريف “الرجل المغربي” و نظيره الأوربي كذلك، و عدم الإكتراث للمسار الذي يأخذه الرجل في المجتمع المغربي. هل هذا يرجع للإيمان أن المجتمع الذكوري لا يتغير، أم هل هناك يقين بمؤسسات و مناهج تعمل دوما لتذكير الذكور بقيم الرجولة و تعمل على غرسها في نبض كل ذكر؟
في العقود الأخيرة، غزت المجتمعات العربية مجموعة من الموجات التحررية الداعية لتحرير الجسد و الحياة المعيشية من قيود المجتمع و الثقافة و الدين، و تقديم المثال الأوروبي و الأمريكي باعتبارهما مستقر المثل الأعلى في ذهن كل مواطن عربي. هذه الموجات ساهمت في خلخلة عوامل الطبقة و العلاقات بالعائلة و الأقارب و في سوق العمل و كذا التوجه الجنسي و الخبرة الشخصية، التي كانت عادت ما تساهم بدور مركزي في تكوين هويات الرجال. فضلا عن زعزعة القيم التي تجعل الرجال يعملون بوعي للإنتماء لعالم الرجال. هذا ما يجعلنا نتساءل مع كاثرين كودنز، هل نشهد حاليا نهاية الفحل أو الرجولة المتسلطة، امام مجموع الظواهر التي تضرب مجتمعاتنا الحديثة بعنف: كظاهرة تعري الرجال، و الرجل الموديل الفني الذي ضاعت ملامحه بين الأنوثة و الذكورة؟ و هل نعتبر اشكالية من قبيل نهاية الذكورة و الفحولة بأنها اشكالية “غريبة” على مجتمعاتنا علما ان الميديا تسوق لها و تلفزيونات العالم تبثها؟ و هل تطاولنا هذه التحولات نحن أيضا؟
و للمضي أبعد في هذا الطرح سنقف عند الطرق التي تبنى بها الرجولة و الذوات “المجنسنة” ديناميا في الجسد الإجتماعي.
التجنيد الإجباري و التأهيل للذكورية
بالرغم من الإنتقادات التي اولاها البعض لفرض التجنيد الإجباري على الشباب ما بين 19 و 25 سنة، فإن الخدمة العسكرية تكاد تعتبر من أهم مستلزمات الدخول لحياة البالغين. فقد أظهر مجموعة من الكتّاب و الباحثين الدور المهيمن الذي يلعبه الجيش بوصفه واسطة لللإنخراط في المجتمع و إعادة تشكيل الهوية الذكرية التي تكاد تختفي. و يبيّن داني كابلان أستاذ الإجتماع في جامعة بار ايلان في مقال له بعنوان “الخدمة العسكرية كتأهيل للذكورية الصهيونية” أن الجيش الإيسرائيلي على سبيل المثال هو “الجيش الوحيد الذي يطبق الخدمة العسكرية على النساء أيضا، إلا أن الممارسة العسكرية تقوم على نظام يكرس التمايزات على أساس الجنس”. فالنشاطات ذات الصلة بالقتال هي مخصصة للرجال و هم يستدعون سنويا لأداء الخدمة العسكرية في فترات متفاوتة و على طوال شطر كبير من حياتهم. فالجيش هو البوتقة التي ينصهر فيها كل الرجال، الرحم الذي يفرز الرجولة و يكرس قيمها لدى الذكور. و في نظر داني كابلان، فإن صورة الرجل اليهودي الذي كانت تتمثل عبر مفاهيم الخنوع، و التشرذم، و التخنيث و الهوان، قد تم تجاوزها و فكّ الإرتباط بها عبر صور القوة الجسدية و الحذاقة و القسوة و الجنسية. “فلقد أعيد بناء الذكورية الصهيونية لتكون ذكورية الجسد..” (نفس المقال)
إجمالا يحاول التدريب العسكري إعادة تكوين المجندين المنحدرين من ثقافات و هويات صغرى ثانوية بالمجتمع، و قولبتهم من خلال قاسم مشترك يتمثل في الإنتماء للمجتمع الذكوري. إنه طقس من طقوس المجتمع لتأهيل الفرد لأن يصبح بالغا و رجلا. فعندما تقرر التجنيد الإجباري بالمغرب في الأشهر القليلة السابقة ردّد مجموعة من أهل المعنينين بالأمر على مسمع ابنائهم: ” سيرْ تجند بَاشْ توْلي راجلْ..” مما يبيّن أن التجنيد جزء لا ينفصل عن الهوية الذكورية التي يحرّج عليها الأهل/المجتمع. يقول داني كابلان بشكل صريح في مقاله “لكن الجيش بوصفه طقس عبور منَظّم و جماعي و معياري، لا يحدد مرحلة جديدة في دورة الحياة و لا موقعا جديدا في المجتمع فحسب، بل يحدد دورا جديدا كرجل أيضا.” و يضيف “و إضفاء طابع مفهومي على الذكوري بمفردات طقس تأهيل للرجولة، يؤكد الفكرة العامة القائلة إن الذكورية التسلطية ليست معطى بل هي مَثَل أعلى يراد بلوغه”. إنه ما جعل بادينتير يفسر النشاط العسكري بوصفه “المرحلة النهائية للذكورية”. و عليه يمكن للدولة إعادة شحن الطاقات الذكورية و الحفاظ عليها باعتبارها أهم بؤر البطريركيةPatriarchy .
الختان: تأشيرة الإنتماء للجماعة
بالرغم من الأهمية الثانوية للختان من الزاوية الدينية الإسلامية، فإن دلالته الرمزية في صنع “الرجولة” مهمة جدا في هذا السياق. الختان ممارسة غير ملزمة قطعا في الفقه الإسلامي. انه عمل محبّذ جدا، لأنه عمل من أعمال السنة، لكن رغم ذلك يأخذ بعين الإعتبار، و يصبح شرطا أساسيا إن أراد رجل غير مسلم الدخول إلى الديانة الإسلامية. فهو يصبح تأشيرة ولوج لعالم أكبر هو عالم الرجال المسلمين. يقول مارسيل ماوس في هذا الصدد: “الختان عندي وشم من حيث الأساس. إنه علامة قبلية و حتى قومية.” مما يبيّن مغزاه الإجتماعي الأهم، بكل جلاء، من مغزاه القدسي الثانوي، و “كلمات “نحن المختتنين” تحدد علاقة ضم إلى جماعة” ( مقال الجنس في الإسلام لعبد الوهاب بوحديبه).
الختان حدث عالق بذاكرة كل رجل، هو ممارسة تمر عبر الدم و الألم، يهيأ الطفل نفسيا لولوج عالم البالغين/الرجال. و يعد أداة رمزية دينية مهمة لتكريس قيمة الذكورية في المجتمع و قولبة الذكور في قاسم مشترك هو “الطهارة/الختان” الذي يجعل منهم رجالا متدينين مسؤولين. هذا، و يشير عبد الوهاب بوحديبه أن تمعين النظر في الممارسة يبيّن أوجه التشابه بين الختان و الزواج. إذ كل منهما يفترض الإحتفال بطريقة واحدة إلى أن ” يبدو كما لو أن الختان لم يكن إلا محاكاة للزواج و أن التضحية بالقلفة استباق للتضحية بالبكرة.” (نفس المقال) و هو بذلك، يجهز الرجل ليكون رجلا فحلا متشبعا بالذكورة، و يعزز قيم الجنسية التسلطية عنده و يبدد كل معالم المثلية التي يمكن ان تغمر الرجل على غرة من أمره، تقول سيمون دي بوفوار “لا أحد أكثر غطرسة تجاه النساء، أكثر عدوانية أو استهجان، من رجل قلق حول رجولته.”
عثمان الهاسوتة – مدينة أيت أورير
اترك تعليقا