استيقظ الأب مع الساعة الرابعة صباحا، صلى صلاة الفجر مع الجماعة، ثم جهز حاله لرحلة جديدة من أجل الحصول على لقمة العيش، لقمة شريفة بأيادي متآكلة من الفحم، وبجسد يزحف نحو الموت، نعم إنه الخبز الحلال الذي يجعل صاحبه ينام نومة هنيئة، لا ضمير يحاسب، ولا عبد يدعوا عليك تحت جنح الليل لسبب من الأسباب ….
جهزت زوجته الفطور صينية بها فطائر وشاي، مع بعض حبات الزيتون ثم زيت الزيتون، وضعتهما على الطاولة الصغيرة، والظلام يخيم خارجا، والبرد يشتد ،وقلب الزوجة يعوي داخلا، تحاول دحض تضاريس خوفها من سقوط الجبل على وجهها، نظرا لصعوبة الطقس خارجا، أمسكت الفطيرة وأمدتها إليه في جو أسري، يلملم الجراح لو كانت تخفى طلاسمها، ثم تناولا فطور الصباح معا، وقبلها قبلة الوداع كباقي الأيام، ثم دنا منها وقال لها بصوت يفوح منه الحنان، اعتني “بالملكين” وبلغي سلامي الحار إليهما ويعني بقوله هذا “أولادهما”.
اختفى الأب متواريا في الظلام، وزوجته تلاحقه بعينيها وسط زحمة الليل، والكلاب تعوي عواء يكاد يفتك السمع من كثرة جهلها، ونفسها الضيقة تراقبه وهو يتخلل بين الأزقة قاصدا وجهة الجبل أو ما تسمى “الساندرية” عند أهل المدينة ، ورعشة الخوف تسري بداخلها بجسم متشنج وعقل سارح كأنها ترسل زوجها إلى الموت موت ملطخ بالفحم الأسود، وتحت آبار الموت، وتناشد ربها في صمت بأن يعود إليها وأطفالها سالما غانما، تظل طوال النهار متجمدة الأنفاس خوفا من صاعقة تحل بزوجها، لأنها الطريق الوحيد القريب إلى الموت، فلا يهنئ بالها حتى يدق الباب .
صعد الأب الجبل وسط ظلام دامس، والصمت الرهيب يسود على المكان، ويتخلله صوت الكلاب من بعيد، يحمل معه قنديلا يضيء به عتمة الحفرة تحت الجبل، لعلها تضيء بسمة عائلته الصغيرة، يتوكل على الله ككل يوم، وينزل إلى بئر الموت الضيق لعله يملأ حفنته بالفحم الحجري ،أو ما يصطلح عليه في المدينة “الشربون”، يجد صعوبة في التنفس يختنق من زحمة البئر خائفا من أن تجهض حياته ولا يرى ابتسامة “ملكيه “، في صمت مدثر بالظلام، لا يسمع منه إلا صوت الحفر، الذي ينبثق من الجبل، يتنفس الصعداء، محاولا استرجاع أنفاسه لإتمام عمله، حالته كحال شخص قادم من المجهول، يبحث عن معيل أسرته …
تلونت السماء بضباب كثيف، معلنة عن سقوط الأمطار، تكبد قلب الزوجة بالخوف ،والقلق يتسلل إلى روحها من حلول فاجعة على زوجها، انقبض قلبها لبرهة كأنها ستسمع خبرا يكسر قلبها، أفكار كثيرة تحط بثقلها على جسدها النحيف، وقلبها يخفق خوفا على زوجها، لفها إحساس مريب وهي تشاهد سقوط أمطار غزيرة ،ورياح قوية أخذت معها الأخضر واليابس معا…
بدأ البئر يتزحزح من مكانه، وتناثرت قطع الأحجار، تهدد سلامة الأب، معلنة حلول فاجعة، حاول استنجاد نفسه قبل أن يدمره الجبل ،سرعان ما أبى ذلك، استجمع قوته بكل ما أوتي ،ومسك الحبل بقلب يئن من الخوف، منهزم تحت القفار، سرعان ما فشل وسقط أرضا مصبوغا بالشربون، يئن أنينا لحد الصمم ، يبكي بكاء الطفل الذي تركته أمه وحيدا، ينهال عليه شريط ذكرياته مع أسرته وكأنما يودع طيفهم واحدا تلو الآخر، ملئت الحفرة بالماء، والأحجار تصوب برمادها إليه، دوار كالطوفان يخنقه، تسمرت قدماه في تلك الحفرة، التي لا تتسع إلى شخص واحد، كأنها عنبر من أحد العنابرالقاسية التي شهدها التاريخ، لما كانت تعكس من مآسي صعبة، يعجز الخيال عن توقعها، غيم الظلام على عينيه، فما كانت رحلته اليوم إلا رحلة أبدية إلى الموت، بعد أن اختنقت أنفاسه، وانسدت جيوب أنفه، انكسرت عظامه من كثرة ارتطامه بالأرض، ووافته المنية بعد صراع طويل مع العودة إلى الحياة ….
.
.
سكينة ميموني – مدينة جرادة
يوميات مدينة جرادة !! من حفر الموت إلى الموت في الغربة .. كلاهما موت