وحيدة بوضياف تكتب: كابادوكا الملعونة

8 فبراير 2020
 
أفلت شمس التاسع من أيلول تاركة خلفها خطوطا برتقالية في الأفق الفصيح، الساعة الآن تشارف على السادسة والنصف مساءً، أضواء مصابيح الشوارع تصدر انعكاسات لطيفة على قطرات الماء التي خلفتها الأمطار الموسمية، الطرقات خالية إلا من بعض المتسولين، الضباب يعلو سماء المدينة ليحجب عنك النظر إلا لبضع أمتار إلى الأمام، وقفت منى تتأمل الأجواء من حولها وهي ترتشف آخر قطرات كوب قهوتها، لتسدل ستائر نافذتها وتندس تحت غطاء سريرها، استغرقت في إكمال روايتها إلى آخر فصل، إنها رواية ملك الجان، عدلت منى نظارتها واعتدلت هي الأخرى في جلستها وهي تقول على لسان صاحب الرواية : “تلك الحادثة… نعم، لقد كانت السبب في ضياع مستقبلي، هاتموك ريتوك وجولا، كابادوكا أصبحت قريبة، ليتني لم أردد تلك الكلمات اللعينة، أنا الآن أسيرة ماريوس ملك الجان في مدينة كابادوكا الملعونة…”
أغلقت منى كتابها وهي تلعن النهايات المفتوحة، نظرت إلى ساعتها المثبتة على معصمها بإحكام، الساعة الآن تشير إلى الثانية عشر من منتصف الليل، حاولت منى النوم ولكن أصابها أرق شديد فراحت تفكر في نهاية مناسبة لرواية ملك الجان، تآكلت أفكارها فكاد يصيبها الدوار، ظلام حالك يسود المكان، صوت ما أيقظ انتباهها من رقاده، التفتت إلى الطاولة فإذا به هاتفتها، من ذا يهاتفها في هذا الوقت من الليل؟، ما زاد من ارتباكها هو الرقم غير المعروف، ردت بصوت يشوبه الرعب والتعجب معا…
منى: مرحبا…. من المتصل؟
المتصل (بصوت فظ غليظ): لقد تلفظت لتوك بتعويذة كابادوكا الملعونة، لقد طلبت حضور ملك الجان ماريوس، س…
أغلقت منى الهاتف بسرعة وهي تردد أستغفر الله، أيعقل أن يكون هذا حقيقيا؟ وفي عز دهشتها وذهولها ظهرت أمامها أربعة أطياف وسط ظلام الغرفة، نطق أحدها بصوت أجش، قفي باحترام وتبجيل، أنت الآن في حضرة الملك ماريوس ملك الجان وملك كابادوكا الملعونة، أنت أمام أعظم ملوك الجن وأقواهم…
وقفت منى في ركن الغرفة مذهولة، عيناها البارزتان كادتا تغادران محجريهما، حاولت أن تبتلع ريقها لكن فمها كان جافا، المنظر أمامها جعل الدماء تتصلب في عروقها وشرايينها، أنفاسها المتسارعة كادت تخنقها، أما عن دقات قلبها فتستطيع سماعها على بعد ذراع منها…
الملك ماريوس (في قلق): لقد أغلقت الهاتف، فلم تدعي لنا فرصة التكلم، عليك أن تحضري معنا حالا إلى مدينة كابادوكا
إنها ليلة العاشر من أيلول والأبواب ستغلق لا محالة…
تذكرت منى أحداث روايتها الأخيرة وتذكرت شيءً عن قداسة أيلول وعن أبواب كابادوكا التي تغلق في العاشر من ذات الشهر ولا تفتح بعد ذلك إلى حين… تصاعدت ضربات قلبها مع ظلام المكان ولم يكن لها سلاح سوى إيمانها القوي الذي كان يطمئن روحها الفزعة من أهوال يقينها يخبرها بأنها قادمة لا محالة…
وفي حركة عنيفة أمسك اثنين من الأطياف منى من ذراعيها وحاولا سحبها كريشة خفيفة بقدميها الحافيتين وثوبها البسيط، حاولت الصراخ مرارا ولكن رُبط لسانها فلم تنبس ببنت شفة…
ردد الملك ماريوس تعويذة كابادوكا ورددها من خلفه بقية الجان لتهب ريح قوية حملتهم إلى غير أرض تاركة خلفهم نظارة منى التي كُسرت إحدى زجاجتيها بعد وقوعها الشديد ووقوع منى مغشيا عليها هي الأخرى…
فتحت منى عينيها نصف المغمضتين في تلك الردهة المظلمة، حاولت الاعتدال في جلستها، أحست بألم في أسفل فصها القفوي إلا أنها كابدت الألم وماهي إلا هنيهات حتى بدأت في استرجاع رباطة جأشها وقفت في ذهول من قفر المكان من حولها، مسحت غشاوة عينيها الصغيرتين لتتأكد بأن ما تشاهده حقيقة وليس سرابا، صرخت صرخات متتالية متسائلة عن المكان والأشخاص وعن كل شيء، أسئلة بلا انقطاع، حتى وقف أمامها الملك ماريوس ولكن هذه المرة لم يكن طيفا لقد بدى أمامها جليا بكل تفاصيله، عيناه الضيقتان وأقدامه المفلطحة وشكل يديه الغريبتين وأصابعه التي يتخللها غشاء رقيق ومتماسك، بالإضافة إلى ملابسه التي تشبه الرداء الفرعوني… اتسعت حدقتا عيناها من هول ما رأت، إنه نفس الوصف لملك الجان الذي قرأته أمسا في رواية ملك الجان…
الملك ماريوس (بصوت قوي بث الرعب في أركان الفتاة): قفي باحترام وتبجيل، أنت الآن في حضرة الملك ماريوس ملك الجان وملك كابادوكا الملعونة، أنت أمام أعظم ملوك الجن وأقواهم…
كادت منى يُلقى بها على الأرض مغشيا عليها، رددت بصوت مرتجف وعيناها معلقتان بالملك ماريوس: يا إلاهي إنها رواية، إنها مجموعة أحداث على ورق، كيف لهذا أن يكون حقيقيا…
قطع الملك ماريوس حبل أفكارها قائلا: إنها ليلة العاشر من أيلول أيتها الإنسية لقد اعتدنا تقديم القرابين لكابادوكا في مثل هذا اليوم ولإن كان القربان إنسيا فإن ارتواء كابادوكا من دمائه سيكون مختلفا واستثنائيا…
لم يترك ماريوس لمنى فرصة التحدث ولا هي استطاعت الكلام من هول ما رأت.
في صباح اليوم التالي اصطحب اثنين من حراس الجان منى -من غرفتها التي قبعت فيها لليلة كاملة؛ لم تذق فيها طعم الراحة أو الاستئناس، عدا تلك الأصوات المرعبة التي كانت تخترق قفصها الصدري أحيانا وتكاد تثقب طبلة أذنيها أحايين أخرى-…إلى ساحة كابادوكا، أين بدأت الحشود في الالتفات من حولها وبدأ الحراس في دق الطبول، أما ما زاد من ارتفاع أصوات الحشود وهتافاتها فهو قدوم ملكهم، الملك ماريوس الذي لم يستغني عن عبارته المعهودة: قفو باحترام وتبجيل، أنتم الآن في حضرة الملك ماريوس ملك الجان وملك كابادوكا الملعونة، أنتم أمام أعظم ملوك الجن وأقواهم…هتافات تعالت مرددة اسم الملك ماريوس، هدأت للحظات، ليعلن أحد حراس الجان عن قربان شهر أيلول وهو يقول: يا أرض كابادوكا الملعونة، إننا نفي بوعدنا فنقدم لك القرابين، فلتفي بوعدك ولتحفظي حدودنا، ويواصل في صمت مهيب بصوت مزمجر، يا مملكة كابادوكا، قربانك اليوم استثنائي فلتروي عطشك من دماء هذه الإنسية( مشيرا إلى منى التي ظهرت في وسط المنصة)،تعالت الهتافات مرة أخرى وجُرت منى حتى أُلقي بها أمام قدمي الملك ماريوس الذي سيقدمها قربانا لأرضه الملعونة، استل سيفه الحديدي ذو لون الشفق البرتقالي من غمده فتقاطع ارتفاعه -تحت هتافات الحشود- مع خيوط الشمس الذهبية التي انعكست على عيني منى والتي تململت في فراشها وهي تحاول فتح عينيها مفزوعة والعرق يتصبب من جبينها، بعد أن أزالت والدتها الستائر عن نافذة الغرفة، لتنظر منى حولها في دهشة، مرددة إنها شمس العاشر من أيلول، إنها حمى الروايات مجددا…
تمت
.
.
وحيدة بوضياف -الجزائر

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :