لا يزال الطفل نجيب يشق طريقه إلى المعرفة في ثبات وأريحية، فقد هذب نفسه تهذيبا لو كان لدى سائر الأطفال الذين في مثل جيله لكان لدينا جيل يتمتع بأخلاق سيد البشرية صلى الله عليه وسلم الذي جاء ليُتَمم مكارم الأخلاق.
دخل هذا الذكي اللبيب الكُتاب وهو يبلغ ست سنوات من عمره، وحفظ إلى حدود سن الثامنة ثلث القرآن الكريم، فلما وصل هذا السن بدأ يتردد تفكيره وتفكير أهله في آفاق مستقبله، هل يُتْمم تعليمه العتيق القائم إلى جانب تحفيظ الكتاب على التمكن من علوم الشريعة الإسلامية أم ينقطع عن هذا التعليم وينضم إلى التعليم المدني القائم على الحداثة والانفتاح على العالم؟
بعدما بدأ يفكر نجيب في مستقبله العلمي شاور أباه الذي حار في مصير ابنه شهورا عديدة يأخذ بمشورة أقربائه وأصحابه وأهل التجربة إلى أن استخار المولى جل وعلا في فترة المصيف على حال يتمثل في أن ولده من الحكمة أن يُغادر الكتاب ويدخل المدرسة التي لها كبير فضل هي الأخرى في تثقيف الأنام، وبعدما يُحصل المرء شهادات علمية ً مسموح له أن يُشارك في الوظائف الحكومية التي تسمح بها الشهادة الُمُحصلة، وهذا الأمر هو الذي حفز أبا نجيب أن يُدخل ابنه إلى المدرسة بدل الكتاب.
بعد عطلة الصيف دخل الطفل الصغير المدرسة رغم أنه كان يفوق أقرانه الذين يدرسون في المستوى نفسه بسنتين، لكن رغم هذا فإن نجيبا ذكي لبيب لا ينظر إلى سنه، بل يهتم بعلمه، وزاده في المعرفة، والشيء الأجمل هو أن أقرانه سيبتدئون في معارفهم الأولى، وهو الشيء الذي حسم معه الصغير الذكي سنوات مضت، وسوف تعطي السنوات التي قضاها في الكتاب متفوقا أُكْلها دون شك.
بدأ الصغير دراسته وهو متحفز لرؤية كيفية عمل المدارس، وقد أظهر لمُدرسيه ذكاءً حادا ليس عاديا بالمرة، وقد ازداد اللبيب فطنة بمرور الأشهر حتى صار مَضْربا للمثل في الجد والمُثابرة.
رغم أنه يدرس بعض الدروس لأول مرة إلا أن ذهنه كان يستجيب وهذه الدروس نظرا لأنه حصن نفسه في الكتاب جيدا جيدا، فقد كان ولا يزال هو الأول بين زملائه في العلم، ونظرا لأنه كان يحفظ من حِكم القرآن والحديث والشعر الشيء الكثير الوفير، فهذه الأشياء تداخلت في تهذيب أخلاقه، كيف لا والكتاب يعمل على تهذيب الفضائل قبل كل شيء؟ فما أجمل التعليم العتيق في صُنْعه لسجايا الطلاب!
إن هذا الأمر كان يُسعد أب نجيب، فهو لما يرى دوما أخلاق ولده يقول في خاطره:”ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين”، ويُذكر ابنه ببيت أحمد شوقي الشهير قائلا:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيَتْ فإن هُـمُ ذهبتْ أخلاقهم ذهبوا
ويرد الابن على أبيه أحيانا قائلا:”الإنسان بآدابه لا بزيه وثيابه”، وهذه الأخلاق كانت تُدخل على الأب البهجة والسرور، ويفرح بها أيما فرح، لأنه يعلم أن بها قام بواجبه تجاه ابنه، وقد يستدل الوالد لنجيب أيضا قائلا: “الأخلاق الصالحة ثمرة العقول الراجحة”، ويشرح لابنه أن مفاد هذه القولة أن الأخلاق الحميدة هي ثمار لعقول تتعامل بالعقل والفكر بدل غيرهما، والأوائل قالوا:“العقل غريزة، والحكمة فطنة”، وإلى جانب أن نجيبا وُلد بعقل مثل جميع الناس، فهو يتمتع بالحكمة التي توحي بالذكاء والألمعية.
سنة وأخرى ونجيب يُظهر التفوق، والأسرة معجبة بهذا الولد الهبة من الخالق سبحانه، وقد قال شاعرنا:
وجودة العقل تنْبِي أن خالقهُ سبحانهُ مُبدعٌ في خلْقهِ عِبَرُ
إن عقل هذا الولد يمتاز بالجودة، وما زاد من جودته هو احترامه الكبير لأساتذته في المدرسة، ولأبيه وأمه في البيت، ولجميع أصدقائه الذين أحبوه حبا كبيرا، ولكل من يعرفه، وربما السبب في هته الرزانة والتعقل يعود للُكتاب أولا، لأن علوم الشريعة تطهر القلوب، وتُنَظف الأفئدة، وراجع للأب ثانيا، فالأب وجه ابنه توجيها رشيدا سواء في دراسته أو في أخلاقه، وكان يرى أن هذه الثنائية بين العلم والأخلاق إن لم تجتمع في طالب العلم كان علمهُ إخفاقا، ويُضْمر دائما في فؤاده قول حافظ إبراهيم الذي يقول:
والعلم إن لم تكتنفهُ شمائلٌ تُعليه كان مطية الإخفاق
لا تحسبن العلم ينفع وحده ما لـم يُتوجْ ربـه بِخًلاًقِ
لا يزال نجيب وهو في سنته الثانوية التأهيلية الأخيرة عنوانا بارزا للتفوق في أبهى صوره، وأجمل حُلَلِه، وأرقى درجاته، وما يزيد هذه الدرجات العاليةَ أكثر جمالا هي تلكم السجايا الرائعة التي تزيد أبناء العُرُوبة ولدانَ الإسلام سناءً وعُلا، وإنه لشيء فائق الجمال أن يتعامل كثير من الإنس تعامل نجيب مع نفسه، ومع الناس حتى يكون لنا مجتمع مثل نجيب في نجابته، وعقله ورزانته.
بقلم: ياسين فخرالدين
اترك تعليقا