الثالوثُ المُحِبُّ..
بَهيجةُ هي صديقتي الصدوقةُ في زمن انقرض فيه الصدقُ، هي حاذقةٌ ظريفةٌ، جميلةٌ قارئةٌ، محبةٌ للخيرِ، تميلُ بطبعها إلى المناظرةِ ،وقد اجتمع مع صِفاتها الحسنةِ تلك قبحٌ واحدٌ آخذًا بزمام خصالها الرفيعةِ إلى مرتبة الغباءِ، ليملأ غبارُ العناد عينيها ،فتغمضهما وتعميهما إلى أمدٍ بعيدٍ دون وعي أو إدراكٍ ، لكنني كنتُ مع ذلك أحبها وأصدق معها لحسن معشرها ونقاء سريرتها، تُرافقني منذ ولوجي إلى كليةِ الطب، وتُنصب نفسها وصيةً علي مع أنها لا تكبرني إلا ببضع سنين، أطربُ ِلغُنة رائها اللطيفة وهي تخاطبني ،مقدمةً ليَ النصحَ المجانيَ ، يا نورُ لا تفعلي ذلك، يا نورُ إحرصي على ذاك، يا نورُ لا تثقي في كلِّ الناس، فهم كزرعٍ اختلط به العشبُ الضار، وانتشر بينهُ النباتُ السَّامُ..! وهي في ذلك محقةٌ كل الحقِّ، فكم مرة فُجعتُ في صديقةٍ أو زميلة ،أربكني صنيعها الغادر معي بعد أن أظهرتْ لي ثمرةَ المودة وأخفت بين صدرها جمرةَ الحسد، وهي في نصائحها المتكررةِ كانت تُلح عليَّ في كل حين أن لا أستسلم لمشاعر الحبِّ، فهو عارضٌ يُصيب الفؤاد بعلةٍ قاتلةٍ لا ينفع معها مشرط الطبيب، وكاسرٌ شديدُ الجوع لا يستثني طائرا أو فرخا، وأنا في كل ذلك أُرهفُ السمع لحكمةِ طالبة الطب المحنكةِ التي أعلم عن حسن أخلاقها و إخلاصها معي، فأُقْبِلُ على نُصحها بِطيب خاطرٍ.
إلى أن جائتني ذات يوم في نحيب شديدٍ، حسبتُ معهُ، أنها قد فشلت في اجتيازِ اختبارٍ من الاختباراتِ، أو فقدت كتابًا من كُتبها الغالياتِ، أو ابتليت بعاهةٍ من العاهاتِ، غير أنها أطلعتني بفجعٍ و وجعٍ، ما رأيتُها تتخبطُ يوما في مثلهما، فقد أصابها ما كانت تهابه وتفر منه، وأسقطها عارضُ الحب بسهم حفر قلبها بعمقٍ، اضطربَ معه جسدها كله، فما عادت تجد لنبضها حسيسًا طبيعيا، بعد أن أعلن صاحب البلبلة والعلةِ، و زميلها في الدراسةِ استقراره وسط أغوار روحها النقيةِ بشخصيتهِ المؤثرةِ المُبهرةِ، فوصفته بكل ثقةٍ بأنه هو الأصلح لها دون غيره من الرجالِ، كنت أستمعُ إليها وأنا أتذكر حديثها السابق عنه، وكنتُ أدرك منذ ذلك الحين ، أن كل أحاديث الماضي التي دارت حوله، ماهي إلا تمويهٌ لإعجابٍ خفي كانت تكرهُ الإفصاح عنه، لكنها اليوم وهي تردف لفظ اسمهِ بتنهدات تجرح القلب وتدميه، جعلتني أرأفُ لحالها بعد أن اتضح لها أن الرجل مُغَيَّبٌ تماما، سائحٌ في دنيا ثانيةٍ بعيدةٍ كل البُعد عن سماء الفتاةِ، لا يدور طيفها في خلده ولا بالصُّدفةِ، قلت لها حينها وقد أخذتني الشفقة على حالها، و حسبتُ أن وقع الخبرِ فيه تسليةٌ لها، أن خليل زميلها في الدراسةِ أيضاً معجب ٌ بها وقد وصلني، من خبره اليقين، أنه يحاول منذ فترةٍ التقرب منها وطلبها للعيشِ إلى جانبه بقيةَ العمر، لكنه بسبب الخوف من ردة فعلها لا يقدرُ على مصارحتها ، فإذا بي أرى وجهها وقد تغير واحمرّ وانتفخ، لتصيح بي مستنكرة حديثي ذاك، ثم ثارت كعاصفة يحسبها الرائي و قد همدت، وهي مافتئت أن بدأت ترسل الصواعق كما تشاءُ فتصيب بها حيرتي وذهولي ، وهي تقول، ما أقساكِ يا نورُ ! وما أقل إحساسكِ بي! أنا أخبرك عن نبيل، وأنت تحدثيني عن خليل! مالي أنا و مشاعره تلك؟ عجبتُ لأمرها أيما عجب وهي ترحلُ متجهمةً فبقيتُ بعد ذلك أراقب ذلك الثالوث المحب عن بُعدٍ، تفضحهم على ساحةِ الحرم الجامعي لحاظهم، نبيل الغير المهتم، سائحٌ في قلبِ بهيجة دون علمهِ لا يستهويه في طريقه الذي يسلكه إلا الدراسة و الندوات والتجمعات الطلابية ، وبهيجةُ المنتبهةُ لسياحتهِ على الدوام مصرةٌ بغباءٍ عليه، وخليل الذي يتبعها كالظل فاقت سياحته ورائها، سياحة الرحالة ابن بطوطة، دخلتُ بعدها حصة التشريح، وأنا لا أزال في عجبٍ من أسرار القلب الدفينةِ ، ثم رأيتُ أن مشرط الطبيب لا يوضح لنا أبدا علة القلب المحب العنيدِ، والذي مهما قيل فيه وكتب عنه ،فلن يعلم بسره إلا خالقه.
لمياء عبد السلام – مدينة طنجة
اترك تعليقا