ليلة ممطرة، راعدة باردة، يحيى على سريره يتقلب يمينا ويسارا يحاول النوم لكن كلما غفى قام مدعورا ، يرتجف، يتصبب عرقا وقد انتابه رعب شديد ، صوت يناديه وهو غارق في نومه ، صوت امرأة تحلق بجناحيها في الفضاء بين السماء والبحر ، تلبس السواد ، تشبه الغراب ، انعكس لون ثوبها على مياه البحر فصار مظلما مخيفا كمستنقع عميق لا حياة فيه.
دنت منه محاولة ضمه بين جناحيها ، ارعبه شكلها ووجهها ورائحة انفاسها، استيقظ مذعورا ، اخد نفسا عميقا ، غادر فراشه ، دخل المطبخ ، أعد فنجان قهوة ، لف جسده بغطاء صوفي فالليلة باردة ، جلس على كنبة سرح بخياله بعيدا يفكر لعله يجد تفسيرا لهدا الكابوس المزعج الدي اقلق منامه ، خصوصا انها الليلة الاخيرة له في هده الغرفة ، غدا سيهاجر سرا على متن قارب والرحلة موعدها عند الفجر سيبحر القارب من طنجة متجها نحو اسبانيا ، فيحي لم يعد يطيق البقاء هنا ، قد مرت شهور واعوام ولم يصله اي خبر عن حبيبته حورية ، كل ما يعرفه عنها انها استقرت بمدريد ، وهو قرر الرحيل للبحث عنها ، وللبوح لها بمكنونات قلبه وعشقه الذي احتفظ به كشعار وخواطر، كتبها على اوراق خباها بين ثنايا كتبه المدرسية القديمة ،سمع ادان الفجر، حان الوقت استعد للرحيل ، لبس معطفه ، قبعته الصوفية ولبس حداءه الرياضي ، اخد حقيبة ظهره وضع فيها ، خبزا ، زيتونا ، رغيفين وقنية ماء ، جمع اوراق اشعاره وخواطره ، دسها في جيب معطفه ، نظر نظرة طويلة لغرفته ، فتح الباب ثم خرج.
وصل المكان المنشود، القارب امتلأ عن اخره ، القى التحية على(الرايس) بحث بين الوجوه عن وجه يعرفه لم يجد احدا ، هم رجال نساء واطفال ، جمعهم حلم هجرة لأرض الاحلام ، ربما عثروا هناك على مصباح علاء الدين او مغارة علي بابا، مجرد احلام واوهام ، تتلاشى مع واقع مر يصدمهم حين الوصول هدا ادا تم لهم دلك.
أخد مكانه وسط القارب ، بسبب الاكتظاظ ، كان عليه ثني رجليه ، ممنوع عليه التذمر فماهي الا سويعات قليلة ويصل مبتغاه، تحرك القارب ، ابتعد كثيرا عن الشاطئ ، انوار تظهر من بعيد ، انها حتما الوجهة المنشودة، استبشر الركاب خيرا ، فالرحلة اوشكت على النهاية ، فجأة ، تغير الجو ’ امطرت السماء ،برق، رعد ورياح، ثارت الامواج وبدأت تتلاعب بالقارب كانه قارب ورق، غمرته المياه،بكاء ، عويل، وتكبير، بدا الركاب يلقون بأنفسهم في البحر، طمعا في النجاة واعتقادا منهم انه بإمكانهم الوصول الى الضفة الاخرى سباحة فلم يبقى سوى القليل ، هاج البحر، اشتدت العاصفة، جثث تطفوا هنا وهناك’ حقائب ، اوراق وقبعات واغطية ، لعب اطفال تقدفها الامواج ، غرق القارب وصاحبه اما يحي بعد محاولة يائسة للنجاة استسلم للموت ، ربما عند نطقه الشهادة ، تدكر كابوس الليلة الماضية وعرف انه لم يكن سوى انذارا ، لكن بسبب حبه لحورية لم يعره اي اهتمام ، ها هو الان جثة تطفوا فوق الماء.
في الصباح سيلقي بها البحر على شاطئ ما ، عند العثور عليها ستلف في غطاء اسود بلاستيكي ، وتوضع في صندوق خشبي وترسل كطرد بريدي ثم تدفن ويكتب على القبر: هنا يرقد المرحوم يحي ولد سنة كدا ، وتوفي سنة كدا ، بسبب حلم تافه كانت هده نهاية يحي وراء كل من ركب هدا القارب قصة لها بداية مختلفة، لكن جمعتهم قصة لها نفس النهاية عنوانها : رحلة على متن قارب الموت.
اترك تعليقا