تعتبر رواية الطنطورية، للكاتبة المصرية رضوى عاشور، من الأعمال الأدبية التي كتبت في سبيل التعريف بالقضية الفلسطينية، في مواجهة الظلم الصهيوني، والطمس الهوياتي الذي يمارس في حق الفلسطينيين، رواية تنتصر للأرض والهوية والتاريخ، تكشف الحقائق من خلال توظيف المحكي التراثي، والإنسان الأبي الذي يدافع عن كينونة وجوده، رغم ما يعيشه من تهجير وقتل وتشريد، عاما بعد عام، وهي الرواية الثانية لها التي تكتب قصد التعريف بقضايا الأمة العربية، من خلال رواية “ثلاثية غرناطة”، التي تتحدث عن الأندلس.
والطنطورية رواية لاقت رواجا كبيرا في العالم العربي، بعدما لامست عواطف الشعوب العربية الإسلامية، والعزف على الوتر الحساس للقضية الفلسطينية، ويعود سبب هذه التسمية التي يحملها غلاف الرواية لامرأة تُدعى “ُرُقية الطنطورية” مِنْ قرية “طنطورة” والواقعة على الساحل الفلسطيني جنوب “حيفا”، ويرتبط هذا الاسم بالمرأة كإنسان باعث عن الحياة وعنصر فاعل فيها بشكل كبير، فهي الشجرة المتمرة الولودة التي تلد وتربي الأجيال، وتغرس فيهم التعلق بالأرض وحب التراب منذ الصغر، الأمر الذي جعل الكاتبة رضوى عاشور تركز في هذه الرواية على المرأة والأرض، فالأرض تنبث النبات الذي يبقيها حية، والمرأة كذلك، وفقدان الشرف كفقدان الأرض.
بالعودة إلى موضوع رواية الطنطورية، حيث تدور أحداث هذه الرواية العظيمة، في أماكن عربية متعددة ومتقاربة، بالرغم من الحدود الوهمية التي رسمها الغزاة قبل رحيلهم، ما بين فلسطين ولبنان وسورية، ثم المناطق المجاورة لها، فكل الدول العربية التي كانت خاضعة للاستعمار الامبريالي، وتحكي هذه الرواية معاناة أسرة فلسطينية، بعدما تشردتْ سنوات النكبة الفلسطينية وبداية التغلغل الصهيوني الذي سيطر على مجمل الأراضي العربية، من العام 1948 وحتى يومنا هذا، بعدما لجأتْ هذه الأسرة، هربا من همجية القتل الصهيوني، إلى مُدنٍ عربية شتَّى، كبيروت بلبنان، والإمارات، ومصر، حتى ذاقت ألمَ الفقد وألوان الخوف والجوع، وتحمل البرد، وألم المُعاناة في المُخيمات، ولم تحتضنها أي أرض رغم أواصر الأخوة التي تتغنى بها الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، فالأرض هي موطن الإنسان وشرف كرامته، مهما كانت ظروف العيش فيها.
لقد سعت الكاتبة لأن تكون فلسطينية مدافعة عن الهوية الفلسطينية، أكثر من تعريفها بالقضية والدفاع عن حقوق الفلسطينيين، في أرضهم وتاريخ أجدادهم، فالرواية تصور الإنسان وتنطلق من الأرض لتكشف رحلة الإنسان الفلسطيني بين الشعوب العربية والعالمية، فشخصية البطل “رُقية”، هي شخصية كل الفلسطينيين، ومعاناتها هي معاناة شعب بأكمله وجد نفسه خارج حدود التاريخ والهوية والأرض، لقد وجد نفسه الكائن المجرد من كل ما يملك، وعليه أن يصارع القدر من أجل العيش والبقاء على رقعة صغيرة من أرضه التي حرم منها.
وتجسد بطلة الرواية رقية، وهي أحد أفراد الأسرة، بطلة من نوع خاص، تحمل كل صفات البقاء، وتغرس جذورها في تربة أرضها فلسطين حتى لا يطالها النسيان وتصبح نسيا منسيا، حيث ظلت عبر الرواية الإنسانة التي كافحتْ، وقاومتْ هذه الأحداث الصعبة وهذه المُعاناة، فكانتْ بطلة بمعنى الكلمة؛ حاملة هموم شعبها وثقل المسؤولية، المتعلقة في إيجاد الحلول للمشاكل التي تواجهها، بالرغم من كون شخصيتها خيالية، إلا أن الكاتبة تمكنت من مسك خيوط الحكاية، كي تلامس أعماق كل فلسطيني وعربي، بل وكل إنساني مؤمن بالقضية العادلة لشعب فلسطين، فبرعت بذلك في كل الأدوار التي ألبستها الكاتبة، ونجحت في أن تكون البطل الإشكالي عبر أحداث الرواية ككل، و ليس فقط كلُّ أمٍ، أوُ كأثنى، لقد أعطت كلُّ رجلٍ درسٌ في معنى روح الإصرارِ، والعزيمة، والكفاح، حتى ولو كان ذلك أدَّى بها إلى فقدان حياتها، وهي بذلك تصور معنى التضحية في سبيل الوطن والأرض، إنها تصور معنى الصمود والشموخ.
لم توظف الكاتبة صمود البطولة للشخصية فحسب، بل كأم وزوجة، تمكنت من الزواج وتفريخ الأبناء، حتى تظل الأجيال راسخة على هذه الأرض كرسوخ الجبال، حيث تزوجتْ مِنْ ابن عمها (أمين)، وهو طبيب يعمل في مُستشفى في “عكا”، وقد أنجبت ثلاثة أبناء وهم (الصادق، حسن، عَبِد/عبد الرحمن)، وبنتٌ تبناها زوجها، بعدما رق قلبه لها، بعدما ماتت أسرتها بالكامل في قصف صهيوني على قرى وبلدات فلسطينية، حيثُ كانت ضحية كغيرها من الأطفال والشباب والشيوخ، فتبناها وسماها مريم، وقد كبرت وكونت علاقة صداقة مع طفلة في عمرها تدعى “وصال”، وقد صادفتها وتعرفت عليها في الملجأ، لجأتْ أسرتها إليهم إبان القصف والتهجير التي عاشها الشعب الفلسطيني، وكانت أقرب الناس إلى قلبها، لأنها ترى فيها صورة الأنا الآخر، لما يتقاسمانه من معاناة.
وتدور أحداث رواية الطنطورية، إبان إعلان قيام دولة الكيان الصهيوني، منذ العام 1948م وحتى الانتفاضة في العام 2000م، وكأنها وثيقة تاريخية، وشاهد من شواهد ما تجرعه الشعب الفلسطيني، منذ وقوع النكسة، والتي عاشت “فلسطين” مذابحٌ، وتشرد، وقتل، وترويع، وخطف، واغتصابات، وعاش شعبها في لجوءٍ مِنْ بلدٍ إلى بلدٍ؛ والعالم ومنظمات حقوق الإنسان، وجامعة الدول العربية، غضوا أبصارهم عن تلك الجرائم، بلْ ويُبيضون سواد إسرائيل وجرائمها باتجاه الشعب الفلسطيني، وقبولها عضوًا في منظمة الأمم المتحدة، وإلى الانتفاضة الفلسطينية.
وأما بالنسبة للكاتبة المصرية الشهيرة رضوى عاشور، ذات الزوج الفلسطيني، فقد سعت ليكون أسلوبها في سرد عاطفي بشكل كبي، يستطيع النفاد إلى قلوب المتلقي العربي بسهولة، وقد ظهر ذلك في مجمل رواياتها، أسلوبها غير ممل يمنح المتلقي فرصة الانصهار في بوتقة التاريخ ومعرفة خباياه التي طمسها الغزو الامبريالي، وتوالي الحروب والنكسات على دول العالم العربي الإسلامي، ومع هذا الأسلوب تدخل طائفة جديدة من القراء إلى الأحداث فيتكون لها وعي بالواقع العربي وقضاياه، وهذا ما يصبوا لهم كتاب التاريخ من العرب المدافعين عن القضايا العربية.
عبد اللطيف ضمير – مدينة الجديدة
اترك تعليقا