بعد أن تم فتح شمال إفريقيا بأكمله على يد موسى بن نصير رحمه الله، وتثبيت دعائم الحكم فيه وترسيخ مبادئ الإسلام في نفوس أهله، اتجهت أنظار موسى بن نصير إلى ما وراء البحر، وبالضبط إلى بلاد الأندلس بغية فتحها ونشر الإسلام في تلك الأرض الغريبة عنهم.
جهز موسى بن نصير جيشا قوامه سبعة آلاف وجعل على رأسه القائد الأمازيغي المحنك طارق بن زياد، وبدأت فتوحات طارق بن زياد في الأندلس. لما علم حاكم الأندلس آنذاك وكان إسمه لذريق بهذا الزحف الإسلامي لم يهتم له في بادئ الأمر واعتبره مجرد غزوة للنهب ستتلاشى مع الوقت، ولكنه أحس بالخطر الشديد لما وصلته أنباء تقدم المسلمين ناحية قرطبة، فتوجه إلى العاصمة طليطلة وجهز قوة عسكرية بقيادة ابن أخته بنشيو-وكان أكبر رجاله- والتقى الفريقين بالقرب من الجزيرة الخضراء.. وفي كل قتال كانوا يهزمون وقتل قائدهم بنشيو وأما من بقي منهم فقد فر نحو الشمال لإخبار لذريق بالخبر..
لما وصل خبر انتصار المسلمين إلى لذريق جن جنونه، وفي غرور وكبرياء جمع جيشا قوامه مائة ألف من الفرسان، وتوجه من الشمال إلى الجنوب لملاقاة جيش المسلمين هناك الذي كان عدده سبعة آلاف جلهم من الرجالةّ، وجد طارق بن زياد صعوبة في مواجهة هذا الجيش العرمرم فأرسل إلى موسى بن نصير في الشمال الإفريقي يطلب منه المدد، فأرسل إليه موسى بن نصير طريف بن مالك على رأس خمسة آلاف من الرجالة تحملهم السفن..
أصبح عدد المسلمين اثنا عشر ألف في مواجهة مائة ألف من الفرسان، واختار طارق بن زياد موقعا استراتيجيا محصنا ليعسكر فيه يسمى وادي برباط أو وادي لكة، فقد كان من خلفه وعن يمينه جبل شاهق يحمي ظهره وميمنته، وعلى ميسرته أيضا بحيرة فهي ناحية آمنة تماما، وبهذا التحصين لن يستطيع جيش العدو الإلتفاف حوله، ووضع في المدخل الجنوبي طريف بن مالك على رأس فرقة قوية حتى لا يباغته أحد من الخلف ويتمكن من استدراج جيوش العدو من الأمام.
ومن بعيد جاء لذريق في أبهى حلة وزينة، يلبس تاجه الذهبي والثياب الموشاة بالذهب، يجلس على سرير محلى بالذهب يجره بغلان. فلذريق المسكين لم يستطيع التخلي عن دنياه حتى وهو في المعركة، وجلب معه حبالا محملة على بغال كانت الغاية من هذه الحبال أن يربط بها أسرى المسلمين بعد أن يهزمهم، فالمسكين كان متأكدا من نصره، وإن الناظر إلى الفريقين وعدد جيوش كل منهما والتجهيزات..سيعلن النصر لجيش لذريق حتى قبل أن تبدأ المعركة..
وفي 28 من شهر رمضان سنة 92هـ= 19 من يوليو سنة 711م بوادي بَرْبَاط دارت معركة طاحنة هي من أشرس المعارك التي خاضها المسلمون، وقاتلوا فيها قتالا شديدا محتسبين صابرين، تتضارب السيوف والقتلى والشهداء يسقطون، وبينما كان الجميع ينتظر هزيمة المسلمين، وقعت المفاجأة وعلى مدة ثمانية أيام وقف جيش المسلمين صامدا يستمد قوته وصبره من الإيمان الذي يملؤ صدورهم، ويصف ابن عذاري جيش المسلمين وهم في هذا الجوِّ المتلاطم في المعركة فيقول: «فخرج إليهم طارق بجميع أصحابه رجَّالة، ليس فيهم راكب إلاَّ القليل؛ فاقتتلوا قتالاً شديدًا حتى ظنُّوا أنه الفناء»
وفي نفح الطيب يقول المقري: كانت الملاقاة يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان، فاتَّصلت الحرب بينهم إلى يوم الأحد لخمس خلون من شوال بعد تتمة ثمانية أيام، ثم هَزَمَ الله المشركين؛ فقُتِلَ منهم خلق عظيم، أقامت عظامهم -بعد ذلك بدهر طويل- ملبسة لتلك الأرض. وأمَّا لُذريق فقيل: إنه قُتِلَ. وفي رواية: إنه فرَّ إلى الشمال. لكنَّ ذِكْره اختفى إلى الأبد.
إنتصر المسلمون إنتصارا مؤزرا لما علم الله ما في صدورهم من الصبر والإيمان..
وكان من نتائج هذا النصر العظيم..أن طوت الأندلس صفحة من صفحات الظلم والجهل والاستبداد، وبدأت صفحة جديدة من الرقي والحضارة، كما غنم المسلمون غنائم كثيرة من أهمها الخيول، فأصبحوا خيالة بعد أن كانوا رجالة ليستكملوا مهمة فتح بلاد الأندلس، وقد استشهد في هذه المعركة ثلاثة آلاف رووا بدمائهم أرض الأندلس من أجل إيصال الّإسلام العظيم إلى تلك الديار..
رحم الله شهداء وادي برباط وجزاهم الله عن الإسلام كل خير.
زكرياء الحداد – مدينة مارتيل
المصادر..
كتاب قصة الأندلس للدكتور راغب السرجاني..
اترك تعليقا