ابنة عمي جاءت من ذلك المكان البعيد البراق بالباخرة، كم كانت تبدو لي رحلة مجيئهم مشوقة وممتعة، يقطعون مسافات بسيارتهم المثقلة بكل تلك الأشياء التي يلزمها ثلاثة ايام غالبا لفكها عن بعضها، ورحلة بالباخرة، كم أتوق للسفر راكبة البحر، شعور الدهشة ذلك، أن أطفو فوق ما يستطيع بلعي وأنجو منه، لكنهم كانوا يصلون متعبين جدا، كأن البحر لا يلتهم تعبهم وحزنهم، عكسي أنا كنت كلما شاهدت البحر انفرجت أساريري عن فرح طفولي حتى بعد أن غزى الشيب شعراتي.
في طفولتي المبكرة وفي زيارة لهم لنا كالعادة، أحضرت لي قريبتي دمية جميلة، والواضح أنها لم تكن جديدة، حيث لم تضعها وسط علبة مغلفة بغلاف الهدايا الورقي كما كنت آمل دوما، في تخيلي للهدايا، لكنها كانت بحالة جيدة، وأخبرتني زوجة عمي أن الدمية المسكينة بكت طول رحلتها، لأنها ستهاجر وتترك مكانها.
لم أتوقع يوما أن للدمى عواطف تدفعها للبكاء، ومتى بكت هذه الدمية؟ كانت جافة تماما وعيونها واسعة لا حمرة بها، ووجنتاها متوردتان عن فرح طفلة يضاهي فرحي بها، فمتى تبكي دميتي؟
كانت تبيت بجانبي، وكنت أبقى يقظة أترقب صراخها، كنت أنوي أن أرضعها بنهدي إذا بكت، كما تفعل أمي لشقيقي كلما بكى، كنت أتمنى أن أصبح أم دميتي بشكل أو بآخر، لكنها رفضت أن تبكي أمامي، ربما هي خجولة من إظهار خوفها ودمعها أمام الغرباء، ربما تتحدث لغة لا تشبه لغة لساني، ربما لو أنها نامت قرب ابنة عمي لبكت، لأنها تتحدث لغتها، فكل ما كنت أملك من لغتهم كانت كلمات محدودة قصيرة تشبه “شكرا”.. “نعم”.. “لا”.. “ما اسمك”، ولا أعتقد أنها كلمات تكفي لمواسات دمية، حتى أن صدري كان حينها لا يوحي بأنني امرأة، كان شعري قصيرا وأشبه الصبية أكثر من الفتيات قريناتي، ولو انتزعت قرطي أذني لظن الغرباء أنني صبي، فكيف سأرضع هذه الصغيرة؟
أشفقت لحالها، وكنت أتذكر خوفي من أن أتوه عن والدتي أو شقيقتي الكبرى في الأماكن المزدحمة، وتضيع خطاي عن خطاهن وأسلك طرق أخرى، وتتضخم في عيني المشاهد والبنايات والمشات حولي، ماذا عن دمية لا يبلغ طولها حتى النصف متر؟ وغريبة هنا وسطنا، لا تفقه شيئا من لغتي ولا تبوح لي عن خوفها!
كنت أبقى مستيقظة، إذ أغمض عينًا وأبقي الأخرى مترقبة لأية حركة منها، ربما دميتي خجولة وربما أشياء أخرى، كان عقلي أصغر من أن يستوعب أشياء أخرى، كانت عطلة صيفية مربكة ومتعبة.
سألت زوجة عمي وأمي بعفوية، بعد أن طفح كيلي:
– كيف تموت الأشياء؟
وأجابت أمي مستغربة:
-بعد أن يتوقف نبضها!
ووضعت يدي الصغيرة أسفل نهدها الأيسر قرب الوسط، وأخبرتني بأن تلك التكات هي نبض قلبها، وبها تكون الحياة وبتوقفها، تموت الأشياء، وأخبرتني بأنني أملك نبضا مثلها بصدري، وعنقي ومعصم يدي.. وكان كشف هذا السر مثيرا جدا، ورحت أتحسس في كل مرة نبضي، وفحصت نبض والدي وشقيقتي، واعتبرته سرا عظيما كشف لي، وتوجهت صوبها لأتحسس نبضها.
وضعت رأسي فوق صدرها ولم أسمع شيئا مطلقا، وضعت أصابعي متحسسة تلك الحركة دون جدوى، ثم بعنقها ومعصمها، ولم أجد شيئا مطلقا، وأدركت حينها أن دميتي ماتت، وخرجت مندفعة أحملها وأضمها لصدري كأم تنعي ابنتها وأخبرتهم بقلب مكسور ودمعة توشك على الإنحدار من عيني:
– أمي، لقد اكتشفت شيئا! دميتي ميتة، ولا أدري منذ متى وهي كذلك؟
وقالت زوجة عمي بتهكم واستهزاء:
– لقد بكت طيلة طريقها ،والمرجح أيضا أنها ماتت فور وصولها أيضا!
كطفلة تندهش لكل شيء، تنام بمكان وتستيقض بآخر دون أن تسأل غالبا “كيف حدث هذا؟”، علق بدهني موت الدمية، ولم أستطع تجاوز الأمر دون أن أتجه لأمي وأسألها مجددا أن تقيس نبضها، وأخبرتني بأنها مجرد دمية لا نبض لها، وأنها أيضا لا تستطيع البكاء ولا الكلام ولا تستطيع الحركة أيضا، فكيف لها تموت إذا كانت ميتة بالأصل، وأدركت أنني أحمل جثة وأراقبها طيلة العطلة الصيفية.
لا أدري كيف لجواب وتعليق عاديين أن يذهبا بمخيلتي كطفلة داخل دوامة الأسئلة تلك؟ لماذا بكت دميتي؟ ولماذا أحضروا لي دمية ميتة؟ هل توجد أخرى حية؟ تستطيع الكلام والسير و البكاء وكل شيء آخر؟
أخبرت زوجة عمي أثناء توديعها، أن تبتاع لي بالسنة المقبلة دمية أخرى جديدة هذه المرة، بها حياة ونبض ولا تعرف البكاء أبدا، معتقدة أن هناك نوعا آخر من كل شيء، فهم يحظرون في كل مرة أشياء جديدة، ولن يستحيل لهم أن يحصلوا لي على دمية بنبض! ولا تعرف البكاء أيضا.
شيماء الملياني ننتوسي – مدينة وجدة
اترك تعليقا