يرسو مركب الصيد الضخم في الميناء.. تتحلق أمامه جموع من الصيادين والباعة المحترفين والفضوليين للتفاوض حول “السلعة” الجديدة، يستغل الموقف ليقفز في رشاقة تتناسب مع سنه داخل المركب، ويربض قرب إحدى أعمدة المركب منتظرا إخراج الصيادين صناديق السمك من فوهة المركب.. تتعالى أصوات الصيادين وصياحهم حول جودة السمك وثمنه بسحناتهم التي استمدت صلابتها وعمقها من طول معاشرتهم للبحر. يستخرج صياد قربه أول صندوق مليء بسمك البوري الطازج، يقدمه لزميل له في خفة ومهارة، فتتداوله الأيدي حتى يصل إلى الرصيف قرب المتحلقين، تتسع عيناه فرحا.. فالمركب اليوم خال من الفتيان أمثاله، وهاهي أسماك السردين والبوري بلونها الفضي المثير تتناثر حوله. ينقض عليها بسرعة وخفة، ويضعها في كيس بلاستيكي أعده سلفا. مرت ربع ساعة.. الكيس قد امتلأ، يفكر في إخراج كيس آخر لملئه. لكنه تذكر أعين الفضولين التي لن تتركه في سلام، وقف فجأة ثم انسحب في هدوء تاركا المركب، وقد جاهد في إخفاء الكيس آثرا السلامة.
سار على رصيف الميناء ببطء يبحث عن مكان مناسب أو زبون لبيع غنيمته.. ثم لمح مركبا آخر قادما من عرض البحر، أسرع إلى بناية في الميناء اعتاد أن يخفي فيها حاجياته. خبأ الكيس في عناية ثم خرج قاصدا المركب، جلس مجددا في المركب يجمع الأسماك التي تسقط سهوا من صناديق الصيادين، انهمك في عمله لفترة، ثم انتبه إلى غياب أقرانه الفتيان الذين تمتلئ بهم المراكب.
مد بصره إلى مراكب قريبة تحمل أسماء سخيفة.. كانت على غير العادة خالية منهم.. ماذا جرى يا ترى؟ هل هجروا الميناء إلى مكان آخر؟.. نسي تساؤلاته وهو يملؤ كيسه الثاني في ذاك المركب، فلم يطق صبرا ترك كل ذلك السمك متناثرا على أرضه. غادر المركب الثاني محملا بالكيسين، وكان ينتظر بين الحين والآخر قدوم مركب جديد يقفز إلى ظهره ثم يعود بعد فترة وملامحه تطفح بالبشر.
بعد ساعات سار إلى مخبئه وقد أعياه الجوع ولفحت وجهه أشعة الشمس، جمع أكياسه ليخرج بها بائعا فوق رصيف الميناء، ثم فضل بعد تفكير أن يقسم بضاعته على دفعات خوفا من تعرضه للنهب، فقد كان معروفا في الميناء-على غير العادة- بلطفه وابتعاده عن الصراع، وكان يحصل يوميا أسماكا أكثر مما يفعل الآخرون، لذلك كان عرضة للاعتداء من أقرانه رغم صغر سنهم. رتب بضاعته فوق أرض الميناء بعيدا عن أماكن تجمع الباعة، ثم بدأ الزبناء يتحلقون حوله: يسألونه أحيانا عن الثمن ويساومونه في حدة أحيانا أخرى، فيما لم يعر اهتماما بتعليقات آخرين لم يعجبهم الثمن، متهمين إياه بمحاولة “الاغتناء” من سمك وجده ملقى على ظهر المراكب.
بعد ساعات كانت البضاعة قد نفدت إلا من بضع أسماك حملها معه إلى كوخه ليشويها لعشائه. خرج من الميناء وسار إلى كوخ مهجور قرب الشاطئ اعتاد أن يبيت فيه، وهو يتفادى الأحجار بحذائه البلاستيكي, دخل إلى الكوخ,, من حسن حظه أنه خال من المتشردين الليلة، وضع كيس الأسماك جانبا، ثم انتحى يبحث في جيوبه عن العملات المعدنية والأوراق النقدية التي جمعها طيلة اليوم.. وضعها في منديل أمامه ثم بدأ بالعد. كان مجموع ما حصله ذاك اليوم: مائتا درهم.. اتسعت عيناه دهشة وفرحا، لم يحصل على مثل ذلك المبلغ منذ سنين من عمله ذاك.. أكبر مبلغ جمعه في يوم عمل كامل كان ستين درهما.. “يا إلهي.. لقد صرت من الأغنياء” صاح مع نفسه وهو يفكر في شيء مميز يفعله بذاك المال، ثم حانت منه نظرة إلى حذائه البلاستيكي الأزرق.. كان ممزقا منذ فترة ويجمعه بخيط بشكل عشوائي غير متناسق.. “لابد أن أقتني حذاء رياضيا وسروالا جديدا.. سأشتري دجاجة مطهوة كاملة مع قطع البطاطس المقلية..” ازدرد ريقه وأحس بأمعائه تتحرك لخاطره ذاك، ثم أثار هذا رغبة أخرى لديه.. كان يسكنها من حين لآخر بطريقة أو بأخرى، لكنه يملك المال الآن.. ثم قطعت تفكيره فجأة أصوات أقدام تتلاحق قرب الكوخ في بطء وثقة. أصاخ السمع للحظة، ثم انتفض واقف وهو لا يدري ما يصنع.. جمع المنديل بما فيه بسرعة وخوف، وبحث عن مخبأ في الجدار اعتاد أن يخفي فيه حاجاته دون جدوى.. “اللعنة.. لقد ردمه هؤلاء المتشردون..” فكر في الهرب، لكن لا وقت لذلك، سيلحقون به ويمسكونه حتما، اعتمد بركبتيه على أرض الكوخ وحاول الحفر,, فتح الباب الخشبي المهترئ فجأة.. رفع رأسه في خوف والمنديل لا يزال في يده، كان الفتيان كلهم يقفون أمامه: “حميدة ” “الطاباكي” “الفار”…وآخرون ممن يجمعون السمك من المراكب.. “اتحد الأوباش إذن..”. تكلم زعيمهم، فيما انقض عليه الآخرون ينتزعون منه المنديل ويبحثون في جيوبه وبين أغراضه:
“أتظننا مغفلين يا “لوبيا”.. تجمع كل السمك وتبيعه وتحصل المال.. ماذا نبيع نحن.. خصياتنا؟”
كانت دموع اليأس والألم قد بدأت تتساقط من عينيه وهو يتابع حركاتهم..
- “انظروا إليه.. إنه يبكي.. هاها”
ثم انطلقت القهقهات والصياح، التفت إليهم زعيمهم.. كانوا يتحلقون حول “حميدة” الذي يعد النقود فقال بحزم:
- “ابتعدوا عنه أيها الخنازير”.. ثم خاطب “حميدة”..:
- “كم عددت..؟”
- “مائتا درهم..”
انطلق الصفير يملاْ جنبات الكوخ.. فيما كان بعضهم يقفز ويضحك في فرح. حزم الزعيم المنديل ثم وضعه في جيبه، وانحنى عليه وهو لايزال على الأرض، قرصه في خده ثم قال في سخرية:
- “نشكرك لكرمك أيها اللطيف.. كنا نود منحك مسنحقك، لكن كما ترى.. فنحن كثر..” ثم وقف وهو يصفعه في وجهه مقهقها..
انطلق الآخرون وكأنهم كانوا ينتظرون الإشارة، فأشبعوا في جسده ركلا ورفسا. خرج الزعيم ثم تبعه رفاقه شيئا فشيئا حتى خلا الكوخ.. نظر إلى أرجاء الكوخ التي عاد إليها الهدوء، كان الألم يجتاح كل أعضائه، حاول الوقوف فأبصر عملة معدنية مرمية قرب الباب.. أسرع إليها وهو يتعثر.. نفض عنها الغبار ثم تأملها: كانت درهما واحدا..
هشام وهبي – مدينة الدارالبيضاء
اترك تعليقا