في الحقيقة علقت في متجر للملابس طيلة موسم شتائي طويل بارد، وكلي أمل أن يأخذني أحدهم يوما، وألا ينتهي بي المطاف يوما معلقا، في متاجر الملابس المستعملة التي سمعت عنها بعض القصص، من صديق علق جانبي ليومين متتاليين.
كان وشاحا بني اللون متعاليا جدا، أخبرني أولا بأنه كان بمتجر لماركة مرموقة عالمية، وأنه بيع بثمن غالي وكان معلقا على دمية عارضة، وظل المارة مبهورين به، وظل ينتظر أن يأخذه أحدهم بحماس مطلق، ولأنه مل من نهدي وعنق تلك الدمية البلاستيكية الجامدة، وأراد أن يجرب ملمس النهدين والعنق البشريين، وكان له ذلك بعد أيام من الانتظار، جاءت سيدة ثرية وأخذته، وأخبرني بأنها كانت تسافر كثيرا وكانت تحب البحر، وبأنه زار البحر رفقتها أكثر من مرة، وأخبرني أيضا بأن للبحر مذاقا خاصا، وبأنه مالح أيضا وشاسع، وتفاصيل اخرى كثيرة عن الحياة خارج المتجر.
تاه عن صاحبته في إحدى المقاهي بمدينة روما الايطالية، أخبرني بأنه ظل فوق الكرسي الى أن أخذه النادل لمكان بالداخل عسى أن تعود السيدة، لكنها لم تعد، وظل هنا وهناك، وتراوح مستخدمي المقهى بتغيير مكانه، الى أن وضع بكيس، ومضت به الظلمة، حتي فتح عينيه في يوم من الأيام داخل متجر لبيع الملابس المستعملة، في حي شعبي، وقال بأن رائحة الكافور كانت خانقة، لكن السعد ابتسم له وأخذته سيدة “ذواقة” حسب وصفه، وأعادت له أيام الزهو والمغامرة، وأخبرني بأن من مخاوفه أن يكون منسيا من جديد وتائها، لأنه جرب هذا الشعور مرة من قبل.
عادت السيدة صاحبته بعد يوم آخر وأخذته، حتى أننا لم نملك فرصة لنودع بعضنا البعض، كنت ممتنا لرفقته كثيرا، لكنه رحل.
بعد رحيله، بدأت أكون صورة عن الخارج وارتسامات عن الأشخاص، وتمنيت أن أخطف قلب امرأة وتصطحبني خارجا، وفي السنة الأخرى، حدث الأمر.
جاءت فتاة شابة ممتلئة الجسد وطويلة القامة، وأخذتني، كانت مستعجلة، لأنها بدأت تمطر فجأة ولم تكن ترتدي ملابس دافئة فأخذتني، ووضعتني بعنقها فورا، ورحت أستنشق رائحتها الزكية الممزوجة برائحة العرق الخفيفة، وحسدت الرجال جميعا الذين ملكوا قبلي فرصة معانقتها وتقبيل عنقها، ليستنشقوا رائحة الجنة تلك.
بت منسيا في الدولاب، وأخرج معها في خرجاتها الخفيفة القريبة، لأنني لم أكن جذابا لأرافقها بمناسبات أخرى،كعشاء فاخر أو اجتماع عمل، لكنني كنت راضيا.
في يوم كانت تعد للقاء صديق، وضعتني و تعطرت كالعادة (أنا أحب عطرها بشدة) وضعت أحمر شفاه ومشطت رموشها، وقضت مدة غير هينة تعدل ملابسها وتغير القطع في كل مرة، وكنت خائفا بشدة أن تستبدلني، فقلت لأقنع نفسي بأنها تعطرت وهي تضعني، فلن تتركني، لكنها فعلت! فمن يستطيع التنبؤ لقرارات امرأة!
انكسرتُ يومها،وهي أيضا،انكسرتُ لأنها أمنتني بالخروج ولم أخرج رفقتها، وكسر خاطرها بحدث ما بالخارج رفقة ذلك الرجل، عادت باكية وضمتني كاعتذار منها لي، وكانت تفوح منها رائحة مختلفة عن عطرها، رائحة عطر رجالية، تشبه عطر رجل كان يتردد على المتجر الذي علقت به بين الفينة والأخرى.
بعد هذا الحدث أصبحنا صديقين، وأخذت تصطحبني في كل مشاويرها، أحببت الأمر،وأحببت واقع عناق صدرها كل يوم واستنشاق تلك الرائحة الطيبة، وكانت أكبر هواجسي بأن تتركني خلفها فوق كرسي مقهى أو في المقعد الخلفي لسيارة أجرة، فقد سمعت الكثير من قصص الضياع التي تحدث في مثل هذه الأمكنة، كنت أتشبث بها، حتى أنها في أحيان كثيرة كانت تجد صعوبة في فكي عن عنقها، أحببت هذه المرأة بشدة، لكنها..!
أخذتني للبحر،في يوم ربيعي بارد بعض الشيء، كنت سعيدا جدا لهذا الحدث، وتذكرت حديث “الوشاح البني” الكثير عن المكان، و كنت يومها في رحلة الوصول أتطاير فرحا ولهفة للبحر، أي وشاح أنا لأنال هذا الفرح، أخذت أتخيله وأضع له توقعات وألوان وأصوات، ولحظة وصولنا، وجدت لونه أزرقا وتربته ذهبية، فتنت به جدا، نسيت صاحبتي، ورحت أتوق لمذاق البحر المالح متصورا درجة ملوحته، كان مهيبا وغاضبا أيضا.
وضعت الصاحبة الأشياء في الشط وفرشت حصيرة قش وجلست تدندن لحنا شجيا، واستغرقت في البكاء للحظات، وكانت الرياح البحرية تتلاعب بخصلات شعرها، وأخذت تنتزع ملابسها الكثيرة ووضعتني أول الأمر فوق حقيبة يدها وذهبت صوب البحر بجسدها الممتلئ الأبيض المغري.
جلست أنتظر عودتها، ولم تعد، ابتلعها البحر، ومن خوفي وفزعي هزلت، وأخذ الريح يجرني من مكاني الى حيث لا أدري، بدأت بالصراخ لكن لم يسمع صوتي أحد، كان الشاطى شبه فارغ، حتى أخذني الموج.
أدهشتني الإتصال الأول به، كان مالحا وباردا جدا ،رحت أطفو بادئ الأمر، وبعدها نزلت أسفل قعره واشتدت الظلمة لاحقا، وكانت نهايتي بالبحر، بمكان أعظم أماني نفسي، ولم ينتهي بي الأمر بمتجر لبيع الملابس المستعملة، لكن أشواقي للصاحبة.. ولرائحتها ولذلك العنق، لم تطفئه ملوحة البحر، ولا حتى عظمته، فقد ماتت بغرقي دهشتي.
شيماء الملياني ننتوسي – مدينة وجدة
اترك تعليقا