..قضى أفواج من الرجال والنساء-وأكثرهم شباب تتراوح أعمارهم بين العشرين والأربعين-قضوا ما يقارب الأسبوع داخل بناء مهجور تنعدم فيه ظروف العيش، ماء وخبز وشيء من الأكل المعلب، ربما كانت صلاحيته قد انتهت أو تكاد..
وفي منتصف الليل دخل عليهم “الروبيو” رجل أربعيني أشقر الشعر، مكتنز الجسم، قصير القامة، في لكنة لسانه شيء من لغة الأجانب.. صار ينادي فيهم قائلا بأعلى صوته: القارب وصل، “الطاليان” تنادي.. هيا، أسرعوا.. أسرعوا قبل أن تباغتنا شرطة السواحل..
خرج وابل من الناس يهرعون في اتجاه الشاطئ الذي سيوصلهم إلى مصدر الرفاه حسب اعتقادهم، كان من بين أولئك امرأة مرضع، “سعيدة” شابة في الثلاثينات من عمرها تحمل بين دراعيها رضيعا بريئا لم يتجاوز السنة، تذرف دموعا، وتقول: أيها الروبيو أمهلني من فضلك خمس دقائق.. كي أرضع طفلي، خمس دقائق لا أكثر.. أتوسل إليك، فقد تكون آخر مرة يتذوق فيها طعم حليب أمه..
رد الرجل قائلا: إلى الجحيم كِلاكما، “الطاليان” لا تنتظر أحدا “الطاليان” ينتظرها الناس بفارغ الصبر، وأنت تتحدثين عن هذا المشؤوم، وعن الرضاعة والحليب؛ يا لك من امرأة غبية..! في هذه اللحظة أجهشت سعيدة بالبكاء، ثم خاطبت طفلها قائلة: سامحني بني لا خيار لدي عليّ أن أرحل الآن.. أراك حين أعود، لن أنساك أبدا ما حييت، أعدك أنني لن أنساك.. سأعود وآخذك معي حتما.. سأجعلك تعيش الرفاهية التي حرمك إياها والد.. وضعته فوق أوراق جريدة قديمة يتصدرها عنوان كتب بلون أحمر وخط مضغوط بارز “قارب الموت”.. ثم غادرت صوب الشاطئ وقد امتزج بكاؤها باللهث..، تلتف إلى الوراء بين الفينة والأخرى.. إلى أن اختفى طيف طفلها عن ناظريها..
يصرخ الروبيو قائلا: هي أيتها المشؤومة خلتك ستظلين إلى جانب ذلك اللقيط، ردت قائلة: ابني ليس لقيطا إنه ابن شرعي تخلى عنه والده بعدما اختار لنفسه حياة أخرى مع امرأة أخرى.. لم يسمع الرجل لقولها، بل صار ينادي في ركاب القارب كل باسمه حاملا دفترا وقلما قائلا: أنتَ.. وأنتَ.. وأنتِ.. عليكم جميعا دفع المال المتبقي قبل أن ننطلق وإلا.. أجاب “بدر” قائلا: وإلا ماذا؟ كان شابا عشرينيا تظهر عليه علامات الخوف، وقد تأبط كيسا بلاستيكيا أسود وضع داخله محفظة خبأ فيها شيئا من النقود، وصورة أمه وأخته الصغرى، وشهادة الباكلوريا التي حصل عليها منذ أشهر في شعبة الرياضيات بميزة حسن..
قال الروبيو: أنت تفهم-يا من يدعي الفهم-قصدي، لقد اتفقنا فيما سلف أن على جميعكم-وقبل إقلاع القارب-دفع ما تبقى من المال مقابل الذهاب، ذلك كان من أحد-وأهم-شروطي، وأنتم وافقتم عليها رغما عن أنوفكم، أليس كذلك-وهو ينظر في وجه بدر-يا من يدعي الفهم..؟
هنا تحدث عدد من الركاب بلسان واحد دون سابق إعلام؛ من فضلك أمهلنا إلى أن نصل.. ونعدك وعد شرف أننا سنوفيك حقك، قال الروبيو وهو يضحك بشكل هستيري: الشرف، قالها وهو ينظر إلى “نجاة” قائلا: أنت يا ذات العينين الزرقاوين والشعر الحريري.. أنت يا.. حدثيهم عن الشرف حديثهم.. نظرت إليه وهي تذرف دموع الندم ثم طأطأت رأسها، ثم سرعان ما عاود برد الحديث قائلا: لقد دفعت لك كل ما أملك، تركت والدتي وأختي للذئاب، أخدت كل شيء جمعته أمي مذ أن مات والدي.. لقد تخليت عن دراستي.. وعن كل شيء تجمعني به ذكريات مقابل أن أهاجر.. أن أهاجر أنا أيضا إلى ما وراء البحر..
عم الصمت لبرهة من الزمن، ثم أردفت سعيدة قائلة والحزن يغمر محياها: وأنا تركت فلذة كبدي هناك، نعم إنه رضيعي طفلي الذي فرطت فيه.. في ذلك المكان المهجور، تركته هناك وحيدا بلا معيل، بقي هناك لا حول له ولا قوة سوى بكائة الذي أرجو ألا يجعله عرضة للذئاب.. لقد تجردت من إنسانيتي، تجردت من صفات الأمومة مقابل أن أصل عالم الأضواء.. ذلك العالم الذي لطالما رأيته في الحلم واليقظة..
أوقف حديثها الروبيو: ثم قال في عجرفة واستهزاء: استيقظي أيتها الحالمة فاسطوانتك الموسيقية قديمة طالما سمعتها اسمعها كل يوم.. آه بل كل ليلة في مثل هذا الوقت، فهذا يبكي وهذه تنعي والآخر يقول أنا كذا وتركت كذا.. اسمعوا يا سادة إنكم الآن في البحر وليس في عيادة طبيب نفسي، أنتم في البحر، البحر لا يهوى الضعفاء، البحر ليس مقهى، أنتم الآن ذاهبون الى الجنة فلتنسوا الجحيم بما فيه لمن هم فيه..
ينظر بدر إلى الرجل مخاطبا إياه: أرجوك.. أتوسل إليك أيها الروبيو، أحلف عليك بمن تحب، أمهلني فقط إلى أن أصل، سأرد الدين أضعافا مضاعفة، لم يشفق عليه الرجل، أخرج من محفظته سكينا ضعن به بدر وألقاه في اليم، عم الصراخ بلسان جميع الركاب.. نريد أن نعود إلى وطننا، نريد العودة إلى أبنائنا ووالدينا..، لا نريد الذهاب، لا نريد.. ثم قال الرجل بصوت مرتفع أنا الروبيو؛ المال هو حبي الأبدي، المال أبي وأمي وولدي.. أنا كلالة؛ لا أب ولا أم ولا ولد.. فلا أريد توسلا من أحد..
ويواصل القارب في اتجاه المجهول والظلام الحالك يخيم على الجميع، ظلام الليل وظلام البحر، عم الصمت، صار الركاب وكأنهم على رؤوسهم الطير، كان من بينهم شاب ثلاثيني يدعى “نجم” كان يرتدي سترة سباحة معتقدا أنها ستنجيه في حال تعرض للغرق.. سأل الفتاة “وردة” وقد كانت بجانبه قائلا: لماذا اخترت الهجرة وأنت ما تزلين صغيرة؟ ألم يكن من الأفضل لك البقاء إلى جانب أهلك وذويك..؟
أجهشت وردة بالبكاء قبل أن تجيب، لقد نزلت عليها كلمة أهلك كالصاعقة.. فقالت: أهلي عن أي أهل تتحدث، عن أب اختار تزويجي لرجل يبلغ من العمر سبعين سنة أو يزيد، بدعوى أنه مترف يملك بيتا وسيارة وحسابا بنكيا، أم عن أم تواطأت مع إخوتي الكبار، فصار الكل يهددني مرة أو يحاول إقناعي مرة أخرى بأن زواج بذلك الرجل خلاصا لي ولهم جميعا من الفقر والبؤس.. ثم أردفت قائلة: الأهل.. الأسرة.. بالنسبة لي شيء خرافي..
أجابها نجم محسرا: الواقع مر، وما نحن فيه أشد مرارة، فيا ليتنا ما أقبلنا على ما نحن فيه.. ولكنه التمني، التمني الذي لا يتحقق، وحتى إن تحقق فلن نستفيد مما تحقق، لن نستفيد من شيء، هنيئا لهذا الرجل المخادع بما كسبه من أموال جمعناها بعرق الجبين، وربما سرقناها لذوينا أو أرغمناهم على إعطائنا إيها.. هنيئا لسمك القرش بنا جميعا.. عشاء دسم حقا إنني اغبطه …
لمعت المصابيح من بعيد، ثم خاطبهم الروبيو ها نحن وصلنا الجنة، ادخلوها بسلام، ذلك يوم الخلود.. بعدها أجبرهم على القفز في الماء واحدا تلو الآخر والكل يصرخ.. وردة تقول في هلع حقا إنه الموت، إنها النهاية.. ثم ألقت بنفسها في الماء، لحقت بها سعيدة بعدما دفعها الروبيو قائلا: هي أيتها الغبية.. الجنة هناك وهو يشير إلى الأمام، لا.. بل هناك.. سقطت في الماء وهي تقول: لا.. لا يمكن، أنا لا أريد أن أموت هنا.. أريد على الأقل أموت في بلدي قرب أهل وولدي..
أشرقت شمس الصباح، واستيقظ الناس على خبر هول الكارثة، جثث لأشخاص أكثرهم شباب، ألقاهم البحر قرب سواحل البيضاء..
يتبع..
إبراهيم الطاهري-بني ملال
اترك تعليقا