” عُد بي إلى حيث كُنت قبل أن ألتقيك ، ثم ارحل”
محمود درويش
يحدث كثيرا أن يسترق السمع لأصوات الطيور صباحا، حين يصدف أن يؤجل موته المؤقت، وحين يستفزه شيء كان ويحدث بقدرة ذاكرته أن يعود، أن يكون، أن يصير، أن يسافر في الزمن: أن يكتسي لحمه ودمه بعد أن فني وانتهى. يحدث أن يصرخ بأعلى صوته مثل الطيور التي تلاعب بشغب هواء هذا الصباح. يحدث أن تتحول الفكرة الثقيلة إلى جيش نمل مسلح، ليعيث فسادا في طمأنينة عالمه الأزرق المتواتر والهادئ. يحدث أن يكون شاهدا على دماره بنفسه. يرمي بصره في اتجاه الجبل المتوج بالريح: سماء هذا الصباح ضيقة ومراوغة على غير العادة.
يتوج حبل أفكاره بصوت شبه مسموع:
_ الغيمة تترك مكانها للشمس. القمر ينفلت من أسره النهاري. الدائرة نفسها. العود ذاته. الفناء البطيء. ممل هو العالم، ممل ونهم في دورته الأبدية.
عوالم، عالمين، عالم. دائرة. عالمه الذي لا تصله جرائد الصباح إلا مساء، ولا تحتسى قهوته الصباحية إلا بمحاذاة الحافة ولا تستيقظ شمسه إلا بعد إذن الجبل. عالمه الفاتن ببطئه ونزقه بين كل فصل وآخر. العالم الذي لا ينهي دورته إلا ليولد من جديد، لا يعول عليه كثيرا.
وحدها المرأة التي تغازل الشرق، قادرة على أن تحدث تصدعات وارتجاجات وأعاصير بأساساته. يتقلب المزاج المركب للمرأة هناك، فيرتج جبل بكامل هيبته هنا. المرأة بمحاذاة البحر والرجة _التي ليس كمثلها شيء_ بعمق الجبل. المرأة المتقلبة مثل نهر قريتها التي غيبها الجنود، تتعطر بعطرها الفرنسي وتدندن لحنا قديما، تشتم السائقين كلما أتيحت لها الفرصة وتنعي قمر القرية وفارسها وكوخ أمها القديم وجديلتها التي اغتيلت ذات مزاج. المرأة التي تسرق جبلا ومدينة زرقاء وحديقة على الطراز الإيبيري وسطها حين تضحك صباحا وهي تسهب في حديث عن الوطن الموؤود، أو عن قصيدة كتبتها وهي تنتظر دورها أمام محطة الوقود. المرأة التي تحكي عن باص المدرسة القديم ثم ترثي _فجأة_ معزاة شربت حليبها قبل امتحان التاريخ والجغرافيا.
يفكر وهو يعيد رسم تفاصيل تصدع ينهش داخله:
_ مقدس صوتها رهينة بحتها التي تسكن يقظته ونومه. وبلهاء هي اللغة التي لا تلقم ثديها لنص يتسرب من عينيها بهدوء ودهشة. أحمق هو المقص الذي قص جديلتها الغجرية. متعب هو ارتداد ذاكرتها. ووحيد هو في دمارها الذي يتجدد كلما ضحكت عينيها المسافرتين منذ الأزل. وبلا معنى كل الذي كان. لو لم يكن ما كان النهش المميت هذا.
يحملق للعدم ويشتم بأدب:
_ العالم الذي لا يفقد توازنه أمام امرأة تتقلب في اليوم مائة مرة، لا يعول عليه.
يتخيل مجرى النهر المحاذي للقرية التي كانت. النهر الذي يغسل خطايا ديانتين وغزل بحار يقفز من مرفأ إلى آخر،وقبلة في حديقة المدينة، وحده يغري بسلام مؤقت. يتأنى قليلا في وثيرة أنينه الحالم، فتستبد به نوستالجيا بلهاء مثل اللغة التي لا تتقن كيف تلقم نهديها لبحة صوتها الصباحية.
يردد مع إشراقة الشمس الأولى:
_ بلهاء هي اللغة. أبله هو العالم الذي وأد قرية يغازلها نهر وسماء وقمرين.
يونس طير_ مدينة شفشاون
اترك تعليقا