” الإنسانُ كائنٌ يفرزُ الكارثة ”
_إميل سيوران_
زنبقة تضحك للرياح يمين الطريق السريع:
هذا الهدير الذي يمضغ الوقت دون توقف، لا يظهر ولو قليلا من الشبع، لا مؤشر على صمت محتمل. النهر الصغير الذي يملأ أذنيه ضجيجا، ويوسع مملكة جسده الصخري.. يشبه الانتظار الحتمي.
النهر المعتل بالمدينة يذكي تفاصيل الحب القديم بمحاذاته..
يشعر بثقل الدم في أذنيه، يكاد يتذوقه.
_ هذا القلق الأزلي ما أثقله.. يتمتم
_ هذا الحب المؤقت ما أثقله..
يندهش من جبروت هذا الشعور الذي يستبد بليله ونهاره، ويتنهد. بتكاسل باد يرمي بصره يمينا: هذا الأزرق المدهش. يتثاءب، تستعر حروب قديمة في قلبه. يدير عينين يكاد يرى اندهاشهما الساطع. هذه القدرة على الفرار من جسده لها غاية واحدة: أن يتأكد من أنه لم يجن بعد..
_ الجنون قادم لا محالة..
_ الجنون المصيري الجميل..
زغرودة رنانة بعيدة تملأ الفضاء. تلتقط عينيه أصابعها الصغيرة. الخاتم الفضي ، وكل تلك الآثار القديمة التي تزينه، الجسد الأبيض الرخو، العينين العسليتين، الابتسامة المجنونة، وتلك البساطة المغرية..
مابين البعيد والقريب ثمة:
أبيض يحتضن صومعة زرقاء،
سكينة أزلية،
ورغوة النهر/ المهيمن
قصب كسول ينام نهارا
شي من بناية قديمة.
ممر مائي حزين،
قيظ صيفي
شجرة غبية أخطأت قانون الطبيعة.
سكون، هدير، صخب الصغار.
رجة جسدين في اللامكان.
حذاء أصفر لسائح قديم
وقبو للكسل المؤقت.
_ أنا ابن الخريف والقبيلة التي تتنكر لتربتها، ابن القيظ وشجرة الكاليبتوس التي تغني صيفا..انا ابن غربة جدتي وهي تملأ صدري بصوف كثيف..
يرتدي الفارس زيا حاكته له حبيبته، ويركب أسدا جبارا، في جيبه حناء باتت تحت السماء سبع ليال، ونعناع يابس.. يغمض عينيه وتملأه رائحة قديمة.
وأنام على رائحة الشمع المنطفئ.
صوف وشمع وحناء وجدة بيضاء طويلة. ولا أغنية واحدة.
زنبقة تضحك للرياح يسار الطريق السريع:
يمج الفارس المجهول لفافته، يرمي ببصره للبيت المهجور جنب النهر، يصرخ في جنازة حبيبة قديمة :
يوتوبيا تسع لكل شيء
إلا لي،
اليوتوبيا التي تختفي لتعاود الظهور مجددا؛
هي الشمس التي تسكن شرنقتها
والغياب
غمامة بلا معنى،
شمس بمنتهى الكسل.
هي آخرون ينتهون عند حافة هضبة.
هي أنت في كامل ألقك.
ثمة متسع من الوقت لكل شيء :
لهذا الأزرق الشبيه بسنديانة تحبو
ووقت لصيد النعاس دون الحاجة لنزع الجوارب!
وربما وقت نتحول فيه إلى طائرتين ورقيتين لا تأبهان بقفزات غمامة.
زيتونة / زنبقة تضحك للرياح
هي لا تمضي سدى:
_ في كل بندقية شيء من رحيقِهَا
وشيء من الحب وشيء من القُبل.
وشيء من حزنها الغرائبي.
اليوتوبيا تعاود الظهور مجددا،
تحبو لتظهر مجددا ومجددا.
وسقراط الذي يرشف كل صباح سم الخيبة،
لم يعانق سماءً،
نورَساً عانق.
_ كأنك نص مجنون يمسك زمام نفسه.
_ كأنك النهاية، النهايات.
اليوتوبيا/ الخيبة/ الحب/
جديلة اغتالتها مدينة سقطت، ولم يسقط بحرها.
تواطؤوا فسقطت.
رجل عانق رصاصة في مكتبه الكئيب،
يصرخ فينا: عائد إليها، عائد إلى حيفا.
_ الخيبة أكبر حتى من المدينة التي أنجبتك مرتين ونصف المرة !
_ المدينة أكبر حتى من القرية التي أنجبتك مرتين وربع المرة !
_ لا طريق يربط بين جديلتك وشجرة الزيتون.
_ لا طريق لليوتوبيا.
شمس،
طائرة ورقية،
غمامة حزينة :
يتاماكِ الذين يتساقطون كلما تنحنحت شفاهك،
أو رتلت شيئا مقدسا،
أو صَلَّتْ.
جميعنا نبلع كيمياء ما لنضحك!
غرباؤك الذين يتساقطون كلما رميت جوربك المسائيِّ بعيدا!
ليلتقطوه .
_ جميعنا نبتلع جغرافية ما لنضحك كذلك!
نيتشه/الظل هو الآن يشعر بالظمإ،
حين يرقص الصبح جنب كنيسة ..
أؤمن، لا أؤمن
خمارة،
أحدق في وجوه الرفاق.
لا سلاح في أيدي الرفاق.
لا مجد للرفاق!
لا مجد!
صبح بلا ملامح .
يشرئب بعنقه جهة المسجد المعلق في هضبة منسية. يتنحنح، وقبل أن يسقط التابوت وتنهض الحبيبة القديمة للرقص، يكمل صيحته في المعزين:
_اليوتوبيا تتصيدها شقوق الخمارة القديمة ، في لحن يعدو ولا يتوقف
يختفي دون أن يعاود الظهور
صدى،
كأنما لا وجود لكل هذا الشوق .
كأنما لم نعش إلا لنحظى بنصف زنبقة.
كأنما نهذي..
يونس طير _كاتب من المغرب_
اترك تعليقا