غيوم تغطي القرية بأكملها، لابد أن تمطر السماء في هذا اليوم دون شك، لقد خيم عليها حزن كئيب، وظل غريب، وقد سكن كل أهلها منازلهم دون خروج، وزادهم المطر بعد دقائق معدودات فرحا، لماذا لا يفرحون وفصل الشتاء يأتيهم بكل خير؟
قد بدأ السرور يظهر على وجوه الكبار رجالا ونساءً من أهل القرية، أما الصغار فقد بدؤوا يتسابقون نحو برك الماء يلعبون وسطها وقهقهاتُهم تعلو في براءتها، إنهم الأطفال، يفرحون بالشتاء كما يفرحون بغيره، كلما غير الجو حاله من حال إلى حال إلا وغير الصغار لعبهم حتى يناسب حالة الجو.
إنها الطفولة في براءتها، والفرحة في منبعها، صغار لا تلهيهم منغسات الحياة عن اللعب ولا عن الفرح، ولا تبعدهم آفات الدهر عن أحلى ما يحبونه، وأقصى ما يحبونه هو النسيان، لأنهم أثناء اللعب ينسون كل شيء متعلق بأسرهم أو متعلق بحياتهم، كما ينسون أيضا أنهم تعبوا طول النهار يلعبون، ولا يأتون إلى منازلهم نهارا إلا لقضاء حوائج أسرهم، هذا يرعى غنما، وهذا يخرج حصانا، وهذا ينظف إسطبلا، وذاك يقصد سوقا، وهكذا.
بهذا اليوم الممطر الجميل يتفاءل عجوز فقيه من القرية بأن هذه السنة سيكون المحصول الزراعي أحسن من السنة السابقة، ويقرر فورا حرث قطعة أرضه الصغيرة، وبذلك يزرع تفاؤله في كل الرجال الذين كانوا حوله، ومما زاد تفاؤله هو استمرار المطر على تلكم الحالة لمدة أسبوع حتى ظن أهل القرية أن المطر لن يتوقف، لأنهم لم يعتادوا على هذا المطر طيلة حياتهم.
بعد أيام قلائل على الحرث يزرع العجوز قطعة من أرضه قمحا، وأخرى لم يقرر بعد ماذا سيزرعها، بعد تفكير وروية يقرر أن يزرعها عدسا، وهكذا بدل محصول واحد كما أَلِفَ فيما مضى سوف يحصل محصولين، ينال من القمح ما يحتاج إليه طيلة السنة الموالية ويبيع ما تبقى له منه إلى جانب العدس.
إنه تفكير من كبُرَ سِنهُ وخبرَ الأيام، لكن يبقى هذا مجرد حلم قد يتحقق وقد لا يتحقق، لقد عَقَلَهَا وتوكل على الله ومن الأكيد أنه لن يخيب أبدا، لأن من يتوكل على الله فهو حسبه.
يعتني العجوز صاحب الجسد القوي والعضلات التي تراخت مع السنين بأرضه أيما عناية، لقد أخذ ما يكفي من التجربة كي يخبر الأيام، قد شارك فيما مضى في المسيرة الخضراء، وكان متفائلا بأن المغرب سيُعيد ما ضاع من أقاليمه الصحراوية، وكان للمغرب ما تمنى، وكان للعجوز ما تفاءل به، فاسترجع المغرب أقاليمه الصحراوية وخرجت إسبانيا من صحراء المغرب، وحقق العجوز والمغاربة نصرا عظيما وفتحا جليلا من دون إراقة دم.
إن العجوز الآن ازداد حنكة وتجربة وتبصرة، إنه ليُبْصِرُ الأمر قبل أن يقع نظرا لحكمته، فكل من في القرية يحترمه ويأخذ برأيه في الأمور، وكأن العجوز هو الذي قيل في حقه:
يزن الأمور كأنما هو صَيْرَفٌ يزن النضارَ بدقةٍ وحِسَابِ
إن هذا الوجود يحتاج إلى أصحاب الرأي السديد الذين يعد العجوز منهم، فكم قضية أزعجت صاحبها ونغست عليه الحياة أياما قام العجوز الفقيه بحلها، وكم من مصيبة كانت حطاما على صاحبها قام العجوز بإيجاد المنفذ لها.
إنه العجوز، أيفوته إذن ألا يعتني بأرضه وهو المُبْصِرُ بالأمور، والحازم وقت الشدائد، والحكيم ذو الرأي قبل شجاعة الشجعان؟
لقد خرجت بعد أيام البذور أوراقا صغيرة من تحت الأرض فزادته فرحا إلى فرح، وسرورا إلى سرور، ومع الأيام بدأت تتكون الحبوب، وشهرا بعد آخر لم يتبق إلا عملية الحصاد التي قام بها العجوز على عجلة ومضض.
بعد الحصاد لم يكن المحصول كما تنبأ به العجوز وتفاءل، لكنه رغم ذلك راضٍ بالقسمة والنصيب، شاكر لمولاه على ما أعطى رغم أنه كان يود أن يبيع جل محصوله وأن يبني بيتا في أرضه التي لا يسكن إلا في كوخ فيها، ورغم ذلك قانع قناعة لا حد لها، وكأنه هو الذي ينطبق عليه قول الشاعر:
لَبَيْـتٌ تُخْـفَـقُ الأرياحُ فِيهِ أحب إلي مِنْ قَـصـْرٍ مَنيـفِ
هكذا يكون الرجال أمثال العجوز، أصحاب البصائر، وأولو النهى، وذوو العقول النيرة، والحكم الخيرة، أليس قانعا قناعة الزاهد، والقناعة كنز لا يفنى؟
كثيرا ما تأمل وقال في أعماق نفسه: “القناعة روح التقوى”، أيُمكن ألا يقنع بالنصيب وهو الذي يتأمل دائما في هذا القول الجميل؟ أيُمكن أن يكون عديم الرضا، وهو الذي يتأمل كثيرا في هذا القول:”الرضا أفضل من الزهد في الدنيا”؟
إن الرضا أفضل شيء في الحياة، وأحسن شيء في الوجود، ودونما شك سوف يعلم العجوز قيمه الحسنة إلى كل من يحبون القيم النبيلة، والمعاني السامية الرفيعة، والحياة السهلة البسيطة الجميلة.
ياسين فخرالدين – مغرب الثقافة
اترك تعليقا