ياسين فخرالدين يكتب: الدهر حالٌ بعد حال

4 فبراير 2020

     هتي الحياة، لابد أن يلقى فيها المرء المآسي، لابد أن يجد الأحزان، وقد يولي الإنسان دبره للمآسي، وتترصده وتتبع أثره أينما ولى، وأينما ارتحل، هكذا هي الحياة الدنيا، مليئة بالمتغيرات، تكون على حال، وبعد دهر تنقلب رأسا على عقب، لا يأمنها عاقل، ولا يثق فيها لبيب مدرك، لأنها كما قيل:

كذاك الدهر حال بعد حال       لأهـليه التـنعـمُ والشـقاءُ

     مِن الناس مَنْ تتابعتْ عليه المصائب، وأتته من كل صوب وجانب، فقدَ الحبيب، واتصل جسمه بالطبيب، حزن وأتاه الغم، كان في فرح، كان -في الدنيا- مسرورا، يلعب ويلهو، يُمارس الرياضة، يركب السفن، يسافر ويسافر،  لا يكل ولا يمل في إسعاد ذاته، وهناك مَنْ ورث السعادة كابرا عن كابر، ورثها عن الأجداد، ثم انقلبتْ حياته، ربما ذهب عنه عزيز، وربما كان في غنى، وأضحى فقيرا.

     ربما كان الحزين طالبا رسب، عاد من مؤسسته صفر اليدين، كمْ بكرَ وبكرَ في الاستيقاظ، كمْ أتى ماشيا إلى المدرسة، كمْ تعرق جبينه، كمْ ترددتْ أنفاسه تعبا، كمْ أنصتَ إلى المدرس يشرح، وكمْ نظرَ إلى اللوح مُنصِتا أو ناقلا ما فيه من درس، لكنه خاب يوم الحصاد، خاب في النهاية، حزن لما أعْلِنَتِ النتيجة.

     هناك منْ يُصاب في أهل، يأتي الموتُ آخذا أحد أقاربه، ويتركه ثاكلا في حزن عميق، لا يعلمُ أو يعلم:

وما المالُ والأهلون إلا ودائع       ولابد يوما أنْ ترد الودائع

     هكذا هي الدنيا منْ تيقن لفعلها صبر، ومنْ جهل تقلباتها مسهُ الجزع، وقطع فؤاده الكمدُ، وتوالتْ عليه السنون، ودارتْ عليه الأيام دورتها.

     هذه الشاعرة الخنساء التي عُرفَتْ برثائها، بعد حرب القادسية أتاها الرسول، مخبرا إياها باستشهاد أربعة من أبنائها، تسأل: هل انتصر المسلمون؟ لا يهمها خبر الأبناء، بعد السؤال عن الإسلام تسأل عن أبنائها، لكن ما يهمها هو أن ترفع راية الإسلام، وأن يرفرف العلم خفاقا، وأن يعود المسلمون بالغنيمة، ويظفروا بالفوز.

     وهذا أحد الأطفال، ضرير بصير، عوضه الله نعمة البصر بنعمة البصيرة، يسأله أحد الصالحين هل يتمنى البصر؟ يجيب واليقين ملء قلبه ولسانه ومحياه، لا أريد أن أرى، لا أريد أن أرى ما في الوجود من فساد وخراب، ولا أريد النظر إلى الباطل، والفوز بالسيئات، وما كان من السائل إلا الاستسلام إلى البكاء، مُعتبرا بكلام الفتى، آخذا القول الفصل من الولد.

     وهذي إحدى الصالحات تصابُ بمرض فُقدان المناعة المُكتسب، لكنها تعيش حياة هنية، وتعيش مرتاحة الضمير، تعيش بين الناس، الكل يعلم مرضها، لكنها باسمة الثغر، تتابع العلاج، وتقول إنها تمارسُ حياتها كأي إنسان، فرحة غير قلقة، تتمتع بملذات الدنيا، لا يُرهبها حزن، ولا ينغص عليها العيش غم، رمتِ الأحزان في السلة، اتصلتْ بالخالق، عرفتْ ربها، وأفرحتْ نفسها.

     هذا فتى، توفي أبوه، عاش في كنفِ زوج أمه، حفظ القرآن، تابع دراسته حتى أصبح مفكرا كبيرا، ملأت شهرتُه الأرجاء، وبلغتِ الآفاق، وانتشرتْ كتبُه في المكتبات، مات وترك الأثر، ومَنْ ترك الأثر لكأنه لم يمتْ، لأن:

الناس صنفان: موتى في حياتهم       وآخـرون بــبـطـن الأرض أحـيـاءُ

ولله در الشاعر حين صَدَح:

العـلـمُ يُحيي أنـاسـا في قـبـورهم       والجـهـل يُـلـحـق أحـياءً بأمـواتِ

     هذا شاب تأخر عنه الولد، ما حزن، طرق الأبواب، بحث عند المختصين، داوم على البحث -هو وزوجته- حتى رزق الولد، وأنعم الله عليه بنعمة الأبوة، وأنعم على زوجته بنعمة الأمومة.

     وهذه امرأة غرق ابنها في اليَمّ، تألمتْ لفقدانه، كان الابن البكرَ من أبنائها، أحرقتْ قلبها المشاعرُ، مزقتْ فؤادها الأحاسيس، لكنها احتسبتْ، ورزقتِ العوض.

     إذا ما ذهبنا نجول في حياة بعض الشخصيات من التاريخ نجد الحياة تتقلب، هذا رسول الله خير الناس قاطبة، يصبر على أشد أنواع البلاء، وأيوب  مع مرضه، ويوسف مع إخوته، ونوح مع قومه، وموسى مع فرعون، وماشطة ابنة فرعون مع فرعون…

     هؤلاء هم الصالحون، صابرون على الابتلاء، يتضرعون إلى الله، يطلبون الفلاح، يطلبون الله أن يأتيَهم في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ويقيَهم عذاب النار.

     هذه هي سنة الحياة، مرضٌ وموتٌ وضياعُ ثروة، وفقدانُ مال، وضياع إرث، والسعيد مَنْ تأقلمَ مع أحوال الدنيا، واحتسب وصبر، وآمن أنه من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه.

     لا تيأس من رحمة الله رغم الابتلاءات، واعلم:

وهذه الدار لا تبقي على أحد       ولا يـدومُ عـلى حــال لـها شـان

     ثِقْ أن مع اليسر يسرا، وأن الصبر مفتاح الفرج، وأن كل شديدة لابد لها من زوال، وأن كل مصيبة يعادلها الذكرُ:”إنا لله وإنا إليه راجعون”.

      الكل عائد، راجعٌ إلى ربه، آخره تُربة عن يمينه وشماله، تربة فوقه وتحته، والصادق مع نفسه من تسلح في الحياة بالإيمان والذكر، وشغل دُنياه بالتسبيح والحمد والتهليل والتكبير.

     ما يَحْزنُ المرء لفقدانه هو الخيرات، أما غيرها سلّمْ على الحياة الدنيا، وطلقْها طلاقا لا رجعة فيه، لأن الشاعر نصحَنا:

لا تأسفن على الدنيا وما فيها        فالموتُ لا شك يُفنينا ويُفنيها

     المؤمن الصادق هكذا، يحزن على عدم صلاة في المسجد، يحزن على ضياع صبح في جماعة، يحزن لأنه ظلم شخصا، يحزن لأنه أخرج لفظا قبيحا، أما سوى ذلك يصبر، يصبر على كل شيء، ويعلم أن له ربا هو المعطي، وهو الذي يأخذ، يأخذ نعمة، ويعطي نعما.

     قانون الحياة هو هذا، سنن الكون لا تتغير، مَنْ عرفها نجا، ومَنْ استسلم لها غرق، وسجل نفسه في كتاب المآسي والأحزان.

.

.

  ياسين فخرالدين – مغرب الثقافة

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :