غمرتني السعادة وأنا أرتدي جلبابي الفضفاض المزخرف باللونين الأحمر والأسود، ونعلي الجلدي، وسروالي القندريسي. الجلباب ذات “القب” الكبير، التي خاطتها لي جدتي فوضعت فيها عصارة خبرتها التي راكمتها طيلة سنوات من الخياطة لسكان قريتنا، والقرى المجاورة لنا. خاطتها واحتفظت بها في صندوقها القديم، ذلك الصندوق الخشبي العجيب، المزين من الداخل بصور بعض صفحات الجرائد والمجلات. كنت أزورها رفقة أطفال العائلة في المناسبات ونهاية كل أسبوع. نكاد نطير فرحا وسعادة حينما نرى جدتي تدير ذلك المفتاح العجيب ذو اليد الطويلة في قفل صندوقها الخشبي. فإلى جانب حليها النفيس، وملابسها التقليدية الأنيقة، تعمد إخفاء عدة هدايا وحلويات في الصندوق الخشبي، ولا تقوم بفتحه سوى في المناسبات السعيدة، وحينما يزور بيتنا الضيوف.
كنت صغيرا حينما انتهت جدتي من خياطة الجلباب، كنت أقيسها فأجدها تكبرني ببضع سنتمترات فأشعر بالحزن، لكن جدتي كانت تعيد لي ابتسامتي بقولها: عندما تكبر قليلا ستكون الجلباب على مقاسك تماما. فأبتسم من جديد، ثم تتابع كلامها: هذه هديتك إن كنت مطيعا ومهذبا. فأرفع رأسي معلنا موافقتي على العقد الذي قطعته معي جدتي. حينما كبرت قليلا زدت طولا بما يتناسب مع الجلباب، ارتديتها فوجدت قول جدتي صحيحا.
أتذكر ذلك اليوم حينما وضعت لي أمي قطعت خبز في محفظتي الصغيرة وتأبطت لوحتي الخشبية الجديدة وذهبت إلى المسجد وكلي سعادة وفرح بجلبابي الجميلة التي امتدحها كل من التقيت به وأنا أعبر الطريق الرابطة بين البيت ومسجد القرية، مشيت مبتسما حد الغرور، معتزا بجلبابي الجميلة ورافعا رأسي وكأني في يوم عيد. وجدت أطفال القرية أمام المسجد ينتظرون خروج الفقيه. كل واحد منهم يحمل لوحة خشبية، ومنهم من يحمل ورقة وقلما.
تبدو الرهبة وعلامات الخوف على وجوه الأطفال الذين التحقوا بالمسجد لأول مرة مثلي. أما الذين اعتادوا الحضور لدروس الفقيه منذ مدة طويلة، فتبدو عليهم علامات الارتياح. خرج الفقيه إلينا بعد لحظات، رجل ستيني ذو لحية سوداء كثيفة، يحمل عصاه الطويلة وكتابا تبدو على غلافه بعض الحروف التي كنت أجهل هويتها ومعناها ذلك اليوم، مرتديا جلبابا بيضاء بقب كبير مثل جلبابي، لكنها تختلف عنها في اللون، فجلباب الفقيه بيضاء ناصعة مثل بياض الثلج. ألقى علينا السلام وطلب منا أن نقيم صفين أمام مدخل القاعة المحادية لمسجد القرية، ثم دخلنا القاعة الواحد تلوى الآخر.
بدأنا الدرس بتلاوة سورة الفاتحة وسور أخرى، ثم كتب على السبورة الحائطية المصنوعة من الخشب بضع حروف ثم طلب منا أن نرددها معه بشكل جماعي بعدما قرأها بمفرده وعرفنا على كل واحد منها. كنت تائها بين تلك الحروف وأفواه الأطفال وهم يرددونها. لم أكن وقتها أميز بعد بين الباء والتاء. كنت أعتقد أن الفقيه يرسم خربشة، كخربشاتي التي تملأ جدار بيتي الصغير، لم أكن أعلم أن تلك الرسوم عبارة عن حروف ينسج بها القاص قصص كما نسجت جدتي الجلباب ذات القب الكبير. طلب منا الفقيه في نهاية الحصة أن ننقل الحروف إلى لوحاتنا الخشبية وأن نقوم بحفظها في منازلنا. نقلتها بخط مائل أنذاك. تقدم الفقيه يراقب خطوطنا الواحد تلوى الآخر، فصحح حروفي وأصبحت مستقيمة. ثم غادرنا المسجد وكلنا سعادة وفرح.
نورالدين المسكيني – مدينة زاكورة
ليس لي كلام أقوله في حضرة سيد القلم شكرا و ألف شكر لك رجعتني لأيام خلت أيام كان كل همنا أن نرى ابتسامة رضى وتشجيع من من لهم الفضل على تعليمنا
مبدع صديقي واصل وفقك الله
فمازال في ثيابك ما يغري قلمك بالكتابة .
Bravoo تبارك الله عليك موفق انشاء الله ??