تحولت الحروف الى شجرة يابسة تلاحقه في غابة موحشة، يركض وتركض خلفه. يتعثر في غصن مستلق على العشب، و في سحابة تركن الى الأرض استمر في الركض لساعات طوال! توقف هو بينما قلبه لم يتوقف على النبض. بشكل مسرع، التفت يتحسس صوت الشجرة أو شيء يميئ إليها، وأخيرا توقفت عن ملاحقته.
استدار ليكمل مسيره وهو يتنفس الصعداء، ويزيل أوراق الأشجار المتهاوية إلى الأسفل بيده ليتضح له السبيل. وعلى مقربة منه وجد بركة ماء. مسح يديه في أطرافه، ومد يديه وهو يتصبب عرقا ويلتفت.. قرّب يده من البركة فجذب غصنا ورمى به وسطها فاستجمعت الشجرة أغصانها وهي تنفض الحروف حوله في بكاء! تقترب منه وغصنها ينذب وجهه، يحاول الابتعاد حبوا وعيناه تراقبان الغصن. اغرس الغصن في أحشائه فصرخ صرخة أيقظته مذعورا من حلمه، وهو يلهث كالكلب أو اشد منه محاولا ان يسيطر على كأس الماء المرتجف في يده. استلقى على السرير مجددا ليرتاح من ذات الحلم المتكرر كل ليلة، أزاح الستارة عن الشمس لتتسع في غرفته علها تطرد عنه بقايا الكابوس.
خرج يتسكع في شوارع حيه الضيقة في مدينة تستصرخ أحدا ينقذها من الظلم الغارقة فيه من طرف كبيرها. الفقر والخشية جعلاها تأكل أطراف أناملها كلما جاعت. وكان في حي عبد الحميد لا احد يجد القراءة او الكتابة الا أربع نفر واحد منهم وراء القضبان واثنان منهما يتوددان للحاكم. وعبد الحميد العامل ككاتب في مجلة الأمل سابقا قبل أن يطرد لأنه يرفض افتراء المجلة التي تصدر كل شهرين. ترسم وجه المدينة المفقود في أبهى حلة وتزعم أن أهلها راضون عن حاكمهم وأنهم فرحون تحت جناحيه. كان عبد الحميد غير راض عن وضع مدينته ووضع أهلها، حاول أن يتمرد لمرات عديدة لكن الخوف الذي يدب في قلبه جعله يمزق كل الوريقات التي فرش فيها حروف الحق خوفه. كانت دوما تأتيه أخبار زميله المعذب خلف القضبان فكان يحسب ذلك تهديدا له .
جلس بعد أن تسكّع قليلا في إحدى المقاهي المجاورة لبيت صاحبه يسمع أخبار الناس المتداولة، وهو منغمس في أفكاره. مر عجوز طاعن في السن مجنون يلتف حوله فتيان الحي. يغرسون أصابعهم في مؤخرته أحيانا، وأحيانا أخرى يحاولون تمزيق ما تبقى من جلبابه البالي دون حياء. قام عبد الحميد يطرد الأطفال ويجلس الشيخ المجنون بجانبه ونظرات النادل تحدجه فلم يلقي لها بالا. دفع للشيخ كوب قهوة، نظر اليها المجنون في تأمل واخذ يحركها بأصبعه. تأمل عبد الحميد حركاته في صمت لوهلة تم سأله:
- مابالك أيها العم؟
نظر إليه آمرا إياه أن يسكت، ثم أردف قائلا:
- لماذا تكلمت؟ كدت أجده !
يسأله عبد الحميد:
- تجد من؟
يجيب: هو..!
- من هو ؟
يجيب هو يتمعن النظر في سواد القهوة:
- الحق.
تسمر عبد الحميد مكانه واختلطت الأفكار في رأسه بالتساؤلات: من هذا؟ وأي حق؟
استفاق من أفكاره ونظر الى الرجل نظرة استفهام. يعيد سؤاله:
- عن اي حق تتحدث؟
حملق المجنون في وجه عبد الحميد لهنيهة، ومد يده الى لحيته فقبض على شعرة ونتفها، فصرخ عبد الحميد:
- اااي…!
ضحك الشيخ ضحكات مجنونة و قال:
- الذي اذا بحثت عنه قلت أي.
واستمر في الضحك حتى جذب أنظار المارة ومن يجلس حوله. فقام وترك عبد الحميد في حيرة. يمر الرجل بطاولات المقاهي يأخذ رشفة من كل كأس وعين عبد الحميد لا ترافقه، غاضا طرفه من أعين الجالسين في المقهى و سخريتهم من خبث الموقف. خرج النادل وأرمى بالمجنون بعيدا.. حينها – و هو يداري خجله- التفت عبد الحميد الى الرجال حوله يتحدثون خلسة ، فقال احدهم:
- اتعلم ان هذا الرجل كان ابي رحمه الله يقول لي انه كان نابغة من نوابغ عصره، وكان قلمه سيف قاطع يثبت الحق ويقطع دابر الباطل. لا يخفيك يا صاحبي ان مدينتنا كانت تعيش تحت طاغية كبير.. الآن نعيش في رخاء وتحت رحمة سيدنا الحاكم أطال الله في عمره!
ابتسم عبد الحميد في سخرية ودفع ثمن القهوتين للنادل، و استجمع قواه مخاطبا الرجل:
- اطال الله في عمر سيدنا!
سار يتأمل جواسيس المدينة، فهم لا يخفون عليه.. أصحاب الوجوه المكفهرة المقرفة المبهوقة، و هو لا يخفى عليهم كذلك. يلعنهم في نفسه ويبصق عليهم في مخيلته.
أصبح عبد الحميد يرى المجنون أينما مرّ في أزقة المدينة وكأنه شبح يلازمه أينما ذهب. مرت أيام عديدة وعبد الحميد يزعجه نفس الحلم حتى كاد ان يصبح في وجوده حقيقة. بحث عن تفسيره فلم يقنعه ما قرأ ولم يدري ان الشجرة هي المدينة وهي الحق الذي كلما كتبه اخنقه الخوف من الحاكم.
يتصفح جريدة الأمل المفقود في المدينة وأوضاعها المزيفة والتذمر الذي يكسوها حقيقة وان لا احد يقدر على إنقاذها. فأما ان يموتوا صمتا او يموتوا تعذيبا في سجن الحاكم. الموت لا مفر منه! توهج الغضب في صدره وهو ينظر الى امرأة متوسطة السن تمد يدها للمارة تطلب دريهمات يساهمن في بقائها حية. فقام يركل طاولة المقهى وهو يزار غضبا الى بيته. اخرج قلمه وسحب ورقة من دفتره واخذ يرسم فيها الوجه الحقيقي للمدينة، ويغرس الحروف التي تنغرس في جسده كل ليلة، وبدأ يسحب ورقة تلوى اخرى حتى انتهى الى مقال في صفحات معدودات تحكي و تصف بؤس المدينة. ثم ذهب الى المدينة المجاورة ينشر فيها الحق.
وهو في طريق عودته للبيت مساء نام من فرط العياء في الحافلة فرأى الشجرة اليابسة المخيفة تكسوها الأوراق الخضراء وتبتسم لعبد الحميد ابتسامة شكر، وتهديه قنديلا تتوسطه شمعة. فانزلقت المحفظة من يده وقام مفزعا يكمل الحلم في يقظته. وطأت رجله المدينة في منتصف الليل وهو يقرأ السلام على نيامها. فتح باب غرفته واستلقى على السرير محاولا النوم فأبى النوم ان يداعب جفونه.
بينما يتأمل الفراغ الذي يكسو غرفته، أخذته غفوة ولم يستيقظ منها الا بعد ان توسطت الشمس كبد السماء. خرج كعادته يلقي السلام على أهل الحي فلم يجبه أحدا. وهو في دهشة مما أصابهم لاح بنظره الى الأرض فاذا هي مفترشة بأوراق جرائد ممزقة. رجع الى بيته ولم يخرج طيلة اليوم. تزاحمت العديد من الأفكار في رأسه: ان يفر من بطش الحاكم أم يواجه مصيره ببسالة؟ أو ربما يقضي على نفسه قبل ان يقضى عليه! غارق في هواجسه النفسية حتى الليل، أغلق عينيه في خوف رهيب. بعد برهة انكسر باب غرفته وانهالت عليه العديد من الركلات والضرب بالعصي من كل مكان، طيلة الليل حتى مطلع الفجر. كان يقاوم الضربات القاضية حتى استسلم وتخدر جسده. لم يخرج من غرفته ولم يزره احد كأنه كلب مجروب، او مجنون معتوه. بعد ايام قام بملابسه الممزقة والمكسوة بحمرة الدم يمد يده الى القنديل الذي تتوسطه الشمعة محاولا ان يشعلها بأصابعه المجروحتين. وخرج في صباح اليوم التالي حاملا القنديل بيديه ويجر رجليه بين شوارع المدينة وكأنه يبحث عن ضالته في ظلام دامس. يمر بين الناس بلامبالاة. يلتفون حوله، فتتناهى الى مسمعه تمتمات سخرياتهم:
- المسكين أصابته لعنة الحاكم.
- ما كان له ان يعصيه! فكل من عصا حاكمنا يصاب بالجنون او يموت ذليلا .
- فلنأخذ العبرة بمن لم يقنع بما رزقه الله له وارتضاه مولانا الحاكم له.
سار عبد الحميد الى الشيخ المجنون ومسك بيده ويده الأخرى تمسك القنديل، وساعا في ربوع المدينة يبحثان عن الحق تحت هتفات الناس:
“الخائن يلقى جزاءه حفظ المولى مولانا الحاكم”.
نادية السوسي – أيت اورير
عن جمعية الشباب الواعد
مبدعة كعادتك … فخورة بك …? أحبك
وافتخر بصدقت❤?