وحيدا جدا، أسير مطرق الرأس، لا أدري إلى أين تأخذني قدماي كل ما أعرفه أن لون الحياة ما عاد كما كان.
الناس يختبؤون في جحورهم خوفا وهلعا من ذلك الشيء الذي أودى بحياة الكثيرين، ومحا معالم الحياة ورسمها.
أزقة فارغة، ومساجد مهجورة، وحدائق أصابها الصمم، ومدارس خضب تلامذتها كف الفراق ومدرسوها. لم يعد بالشارع متسولون ولا لصوص متربصون، وكذلك العشاق اختفوا دون إذن مسبق. لا صوت يعلو فوق صوت الوباء.
ما زلت أسير مطرق الرأس، ومعي بعض الأفراد الذين أخرجتهم حوائج انصرفوا لقضائها.
عند منعطف الشارع تسللت قدماي نحو مقعد فارغ بجوار مقهى مغلق. جلست شارد الذهن أفكر في هذه المصيبة التي جعلت الطير تأكل من رؤوس الأنام.
تساءلت في نفسي، مادام هذا كله يحصل لنا فما طبيعة الشر الذي اقترفناه حتى نلقى جائحة كهذه؟ أسئلة كثيرة تقرع عقلي دون استئذان ولا أجد لها جوابا.
المدينة في حداد، وكذلك العالم معها أجمع، هذا الوباء شل دأب الناس وحركتهم، فعل بالناس فعلته دون أن يخرب عمرانا أو يهدم بيتا ، لا يفرق بين غني وفقير ،الناس كلهم عنده سواء،
الجميع بات يسعى لفعل الخير، والجميع بات يتظاهر بالإنسانية! فلنقل نفاق وحسب. الوباء الحقيقي هو الإنسان نفسه، وما يصيب العالم من سوء فمنه.
نظرت إلى ساعتي فوجدت أن موعد جولتي راوده العود. التجول محضور بعد الساعة السادسة، وكل من يخالف القانون يلق عقوبات بالسجن، وغرامات مالية.
سرت وخطواتي تقرع الإسفلت دون أن تحدث لغطا، ومشهد الحزن يخيم على كل عُرض بالمدينة، حتى الطيور ما عادت تشدو وتصدح بصوتها العذب، هي أيضا أدارت ظهرها للإنسان كما أدار الإنسان ظهره لأخيه الإنسان.
اقتربت من الحي الذي أقطن فيه وإذا بي أرى سيارة إسعاف، وامرأة مكلومة تنوح وتندب. اقتربت مترين أتقصى ما حدث ،سألت رجلا شيخا.
أجابني والدموع في عينيه:
لقد انتحر ابن تلك السيدة المسكينة. أردف قائلا
- كما تعلم يا بني هذا الوباء دفع الجميع إلى المكوث في بيوتهم وهذا الشاب المسكين كان يعمل حرفيا بأحد الأحياء يقتات من رزق يديه، وعند إغلاق محله لم يسطع أن يسأل الناس إلحافا، فكبرياؤه لم يسمح له أن يستجدي الناس أن يغدقوا عليه مما رحبوا، أو يقضوا له حاجة. فأنهى شريط حياته تاركا والدته بلا حول.
سرت بين فجاج الطريق، الشيخ قصد اليمين وأنا قصدت الشمال أسير وأسير حتى وصلت باب منزلي
أ أبكي أم أشفق أم أنام أم أضحك أم أصرخ؟
ما عاد جدوى للحياة. فلتعد أيها الموت أدراجك، فالناس قادمون إليك. لا تتكبد عناء السفر فالجميع بات يعرف مكانك فلتنتظرهم ولتضمهم وعانقهم عناقا ينسيهم حنظل عيش دون على صحائفهم، أكرمهم فهم قادمون إليك ….
مصطفى السعيدي – أيت اورير
عن جمعية الشباب الواعد
اترك تعليقا