على الحصير مجردا مهمل بركن من الغرفة. عيناه جاحظتان وأطرافه لا تنبس بحركة. هكذا اعتاد قضاء يومه بين الجدران الأربع، يعتصر الألم قلبه محزونا واجما.
عاد إلى ذكرياته وهو يكابد لوعة حارة، حينما كان يعيش بقرية صغيرة داخل بيت قاسمه الأتراح قبل الأفراح .لم يرث من والده غير ذل الفقد ، غير أن أمه أرضعته من تعبها ، وصيرته رجلا من كدها وعنائها. أتمم دراسته. وكان الأول في دفعته، شجعه أساتذته على إكمال دراسته في المدينة وقاموا بجميع الإجراءات اللازمة ليتيسر له ذلك. كان بريق الفرح يكسو عينيه والمشاعر تدب في باطنه، يتخيل المدينة وشوارعها وأناسها وحدائقها ،وهو الذي اعتاد أن يضع صورا لها في مخيلته انطلاقا من عديد الكتب التي كان يداوم على قراءتها. يحلم ويتخيل، وما يفتئ يحدث والدته عن المدينة، ويسرد لها قصص بيتهما الذي سيبنيه حينما يصير موظفا بالشركة، وعن السيارة الفارهة التي سيجلس بمقعدها لابسا بذلة سوداء وسمات الترف وقسماته بادية عليه.
عاد ينظر من خلال كوة بالجدار فانقضت صورة ذلك الشاب على تلك اللحظات جميعها، لتغتال حلمه وتقوضه داخل سجن إنفرادي.
“حكمت المحكمة على المدعى محمد بأربعين سنة نافذة بتهمة القتل”.
لازالت هذه الكلمات تذبح اذنيه، وصداها لا يفارق ذهنه طيلة هذه السنوات.اقفرت مدامعه وهزل جسمه وانعزل عن السجناء، يتناول الطعام ويخلذ للنوم، لتمر سنون الغدر عليه بشحوب فصولها وطول شهورها وأسابعها وأيامها بل وحتى ساعاتها. صفو الحياة تعكر ، فلم يعد تمة دافع يدفعه للبقاء حيا ماعدا صورة والدته المسكينة التي تهبه أملا في البقاء. كان يتساءل عن حالها وعن شكلها وكلما ضاق صدره كان يتداوى ببلسم الحنين والشوق، يستجديه أن ينعم عليه بعضا من حنينها الغابر. الذي انتزعته منه الأصفاد حينما كبلت يديه ليساق به يومئذ إلى مصيره المجهول.
أخذ الفقيه بياقته يسأله ويداه ترتعشان من هول ما رأى.
– أخبرني يا بني الحقيقة أأنت قتلته؟
- أقسم بالذي خلق السماوات والأرض ما اقترفت يداي جرما.
- اصبر يا بني واحتسب الأجر عند الله.
هكذا قال الفقيه والدموع تسيل أسفا على حال محمد.
جريمة لم يكن له فيها صنع يد، وامرأة بدينة مفرطة في البدانة ، ذات كرش عظيمة ، ووجه مستدير لاحت فيه قسماتها دقيقة صغيرة.أدنى إلى الدمامة. أتى عليها الحزن فزادها بشاعة. تستحضر صور ابنها وتصيح قائلة:
- “هو لي قتل وليدي. هو لي قتل وليدي”.
تلك الجريمة البشعة كانت منعطفا غير حياة محمد.
الساعة تشير إلى الرابعة زوالا، ومحمد عائد من الحقل بعدما قضى نهاره في الحرث. وعلى بعد كيلومترات من منزله استرعى انتباهه شيء تلعب به الرياح على شجرة لوز. أسرع ليستطلع الأمر، ودقات قلبه في خفقان متزايد، وصل فتسمر في مكانه والدموع تهطل من جفنيه بغزارة، لم يتمالك نفسه وخارت قواه وعدا يهرول وينكفئ من خطاه المتعثرة.
أخبر أهل القرية فهبوا إلى المكان المشهود. هناك ارتمت عليه أم الفقيد تلطم رأسه وتصيح بأنه قاتل ابنها.
انقضت مدة الحبس وأفرج عن محمد وداعبت عيناه سماء الحرية. فوجد العالم تغير من حوله كثيرا. اغرورقت عيناه بالدمع وهو كظيم.
كان يردد جملة واحدة” بغيت نشوف أمي “.
أخذوه إلى قريته إلى مسقط رأسه، دلف الباب فوجد أمه شاخت وقد شاخ مثلها في مشهد مؤثر والكلمات تنساب من رحم المعاناة” ظلموني أمي – تعداو علي أمي – شهدو في الزور أمي – الله يأخذ فيهم الحق أمي ….
مصطفى السعيدي – أيت اورير
عن جمعية الشباب الواعد
اترك تعليقا