ترك كتاب (ألف ليلة وليلة) بصمته ليس على الأدب والفن العربي حسب بل وعلى العالمي أيضا ً، ومن ثمّ فقد كان موضع اهتمام العديد من كتّاب وأدباء العالم ، ومصدر الكثير من الكتب والدراسات التي كُتبت وصدرت بمختلف اللغات . بتقنياته الإطارية وحكاياته المتناسلة وشكله المتجدد. إذ تشير المصادر إلى أن كتاب (ألف ليلة وليلة ) كان خطوة حاسمة في نمط الكتابة لدى الانجليز، وتحولاً جذريا في مسار السرد الخيالي، لم يحظَ بها سوى الكتاب المقدس، وتروي جلّ الدراسات المتخصصة في هذا الشأن اهتمام الانجليز بالليالي، وكيف إن كبار الكتاب من أمثال ووردزورث، وكولردج، ودي ساسي ، وغيرهم اولعوا بسحرها ايلاعاً شديداً، وكيف شكلت مصدراً مهماً لرصيدهم الثقافي.
ويكاد الاجماع ينعقد على عدم عروبة تلك الليالي وأنها مترجمة عن الفارسية والهندية، وكان قد اعتمد اصحاب هذا الرأي على ما جاء في كتب التراث مثل كتاب “مروج الذهب ومعادن الجوهر” للمسعودي الذي قال عنها(( أنها أخبار موضوعه من خرافات مصنوعة ، نظمها من تقرب للملوك بروايتها ، وصال على أهل عصره بحظها والمذاكرة بها ، وأن سبيلها سبيل الكتب المنقولة الينا ، والمترجمة لنا من الفارسية والهندية والرومية ، وسبيل تأليفها مما ذكرنا ، مثل كتاب هزار أفسانة ، ومثل كتاب فرزة وسيماس ، ومثل كتاب السندباد ، وغيرها من الكتب في هذا المعنى )). و”الفهرست” لابن النديم الوراق البارع ((إن أول من سمر بالليل الإسكندر ، وكان له قوم يحكونه ويخرفونه .لا يريد بذلك اللذة ، وإنما كان يريد الحفظ والحرس ، واستعمل لذلك بعده الملوك كتاب “هزار أفسان” يحتوي على ألف ليلة ودون المائتي سمر – لأن السمر ربما حدث به في عدة ليالٍ، ولقد رأيته بتمامه دفعات ، وهو في الحقيقة كتاب غث بارد الحديث )) وكتاب و”الإمتاع والمؤانسة” لأبي حيان التوحيدي ومصادر أخرى .
في الوقت ذاته ذهب جمعٌ أخر من الدارسين إلى تفنيد مزاعم من نسب تلك الليالي الى اصول غير عربية فارسية كانت أم هندية، كما ذهب الشاعر والناقد العراقي (سامي مهدي) في كتابه (( ألف ليلة وليلة كتاب عراقي أصيل )) الصادر عن دار (ميزوبوتاميا ) الى القول بعروبة ذلك الكتاب موثقا رأيه من مصادر التراث ذاتها (مروج الذهب /الفهرست /الامتاع والمؤانسه) ؛ على اعتبار أن المعلومات المتوفرة في هذه الكتب عن ألف ليلة وليلة صحيحة وموثوقة لأن مؤلفيها أقرب إلى عصر الكتاب وزمن تأليفه. ومعتمداً النصوص القديمة ذاتها التي استنتج منها الباحثون العرب والمستشرقون، أن كتاب “ألف ليلة وليلة” مترجم عن أصل فارسي، حيث يرى أن المستشرقين أمثال ( شليجل ، وكوكسين ،وبريزلسكي، السدروف، برتن، ديرلاين) ، ومن تبعهم من الباحثين العرب لم يطيلوا النظر في نصوص المسعودي ، وابن النديم، ولو فعلوا لوجدوا أن لهذا الكتاب (أمّاً قديمة) ألفت في العراق باللغة العربية الفصحى، ثم انتقلت إلى الشام ومصر، وجرى تحريفها من قبل الرواة الشعبيين وأدخلوا عليه زيادات ليست من أصل الكتاب ، يقول: (( لا يعرف مؤلفه أو من روى أو جمع النسخة الأم … منهم من نقله بشيء من الدقة ، ومنهم من نقله دون أن يتقيد بلغة أصله ، ومنهم من أعاد صياغة أصله وتركيبه بصورة يفهمها القراء ، ويرغب فيها القصاص المعاصرون له . ثم أن النساخ لم يتحرجوا من تغيير لغته ، ووضع الفاظ معروفه عندهم مكان ألفاظ لم تعد دارجة في أزمانهم ، ولما لم يكن غرض الكتاب تعليم العلوم والآداب واللغة الفصيحة ، وإنما غرضه الحكاية والسمر ، لم يتورع النساخ ، ورواة القصص والسير من أن يقحموا فيه ، ويضيفوا إليه قصصا أخرى ، ارتضاها ذوقهم أو فنهم)). وكما يكشف النظام القصصي في ألف ليلة وليلة أنه مكتوب بلغة عربية وليس من المرويات الشفهية، فكُتّاب وقُصّاص هذا الأثر لم يكونوا مؤلفين، بل رواة مرتبطين بمرجع مكتوب وأنّ المؤلف عربي، مسلم، واسع الخيال، مرهف الحس، عميق الصلة بحياة الشعب اليومية ومشاكلها وهمومها وأحزانها، على العكس من بقية المؤلفات الأخرى التي تشابهت مع هذا الأثر العربي، لكن زاد عليها المحرّفون بما يناسب عصورهم وأحوالهم الاجتماعية والسياسية. كما يشير الاستاذ سامي مهدي، أن كتاب ”ألف ليلة وليلة“ ظهر في حقبة كان القص فيها يستأثر باهتمام عامة الناس وسائر طبقاتها الاجتماعية، وأن ثمة احتمالا طالما أغفله الباحثون ولم يتعاملوا معه بإمعان ومثابرة، رغم ما له من مغزى كبير، وهو وجود أكثر من كتاب يحمل عنوان ”ألف ليلة وليلة“، أو أي عنوان آخر مشابه له أو يؤدي معناه. ذلك أن الحديث في نصوص المسعودي وابن النديم والتوحيدي عن ”ألف خرافة“ و“ألف ليلة و“ألف سمر“ قد كتب بأساليب لابدّ أن تقود الباحث المدقق إلى هذا الاحتمال، والحديث عن الليالي والأسمار لا يحلو لها إلا برقم ”ألف“. المؤلف المجهول يرى الناقد “سامي مهدي” أن إشارة المسعودي إلى كتاب ”هزار أفسانة“ جاءت في معرض تشبيه أسطورة الأعرابي، الذي دخل مدينة ”إرم“، بالخرافات التي جاءت في ذلك الكتاب، ولا علاقة لهذه الإشارة بكتاب ”ألف ليلة وليلة“، أي أن المسعودي لم يقل إن كتاب ”هزار أفسانة“ هو نفسه كتاب ”ألف ليلة وليلة“، بل قال إن الناس تسميه بهذا الاسم، والفرق دقيق بين هذا وذاك، فالناس قد تغلط، ويشيع غلطها ويجري تداوله كما لو كان هو الحقيقة. والدليل القريب والملموس على ذلك أن اسم كتاب ”هزار أفسانة“ ينبغي أن يكون باللغة العربية ”ألف خرافة“، لكن الناس لم تكن تسميه بهذا الاسم، بل تسميه ”ألف ليلة وليلة“. وعلى هذا الأساس يعتقد سامي مهدي بأن كتاب ”ألف ليلة وليلة“ كتاب آخر غير كتاب ”هزار أفسانة“، إذ لو كان هو نفسه لقال المسعودي وغيره بوضوح: إنه هو، ولاحتواء الكتاب نفسه على قصص يعود زمنها إلى عهود قديمة سبقت ظهور الإسلام بكثير، ولكان أبطال هذه القصص الأساسيون من غير المسلمين، ولكانت المدن الإيرانية، وليس بغداد والبصرة والموصل والقاهرة ودمشق وحلب، هي مسرحه، ولغدت بيئته غير البيئة العباسية، ولو ردت فيه أسماء الملوك الفرس، ولم يرد اسم الخليفة هارون الرشيد وزوجته زبيدة ووزيره جعفر وخادمه مسرور. إلاّ أن شيئا من هذا لم يحدث، الأمر الذي يزيد المؤلف سامي مهدي قناعة بأن كتاب ”هزار أفسانة“ يختلف عن كتاب ”ألف ليلة وليلة ، وهذا ما أيده الدكتور(عبد الله ابراهيم ) بقوله:(( إن منطق التحليل يفضي إلى القول بأن المسعودي كان يضاهي كتابا خرافيا عربيا من أجل توضيح محتواه بكتب خرافية لأقوام أخرى، مما نقل إلى العربية ، فلا يعقل أن ينتخب كتابا أجنبيا ، بغية توضيح محتواه ، ليضاهيه بكتب غير عربية .نص المسعودي يرجح أنه كان يضاهي كتابا في الخرافات ، هادفا به إلى التعريف بكتب نقلت إلى العربية، وأصبحت مألوفة في القرنين الثالث والرابع)) . أما استشهاد سامي المهدي الأبرز يتلخص في أن ابن النديم في كتابه ”الفهرست“، لم يتحدث عن قليل أو كثير من كتاب ألف ليلة وليلة“، بل اقتصر حديثه عن فن تصنيف الخرافات، وكتاب ”هزار أفسان“،الذي استخف به قائلا ”إنه كتاب غث بارد الحديث.
ولعل ما جاءت به مجلة (الانثيم) عن ” فوربز فالكونر” الباحث في الاصول التاريخية لألف ليلة وليلة يُعضد ما جاء به “سامي مهدي ” في كتابه مؤكداً اصل الدلالات والاشارات الواردة في الكتاب كان قد مر بسلسلة من عمليات التجميع والتحقيق متعرضا إلى حذف وتغيير واضافة. مبرهنا على صحة ما ذهب بوساطة ما اكتنزته تلك الليالي نفسها التي ضمت قصص الرومانس التاريخية التي تعود تعود الى ما قبل الفترة العباسية ، ذلك أن تلك الحكايات تطرح اجواء شبه حربية معنية بالفرسان والنبلاء في مجتمع غير تجاري مجتمع بداوة اذ تخلو هذه من التفاصيل والأحاسيس والعلاقات المنزلية والحضرية وكان أن عد هذه – كقصة عنترة- حكايات تتجاوب وروح الانسان العربي قبل الاسلام ، وأثر التوسع الحضري في العراق وسوريا ومصر ، كان أن ولدت حكايات اخرى تمتاز عن سابقتها بطرح واضح لأخلاقيات وطموحات الطبقات التجارية .
كما يذهب أيضا الى القول بان الرواة وكتاب الحكايات في العصر العباسي فعلوا ما فعله معاصروهم من فقهاء وعلماء اللغة والطب ، فبحكم الازدهار الحضاري وجدوا أنفسهم يبحثون عن منجزات الامم الأخرى في شتى ميادين العلوم والفلسفة فكان ان طوعوا آداب الامم الاخرى اخذين منها ما يرونه شيقا وممتعا وجديدا .
وهو ما سعى الدكتور “محمد مصطفى الجاروش ” في كتابه (الليالي العربية المزورة) إلى اثباته بوساطة تحليل وفحص وتدقيق حكايتي “علاء الدين ” و” علي بابا” مشيراً الى أن حكاية “علاء الدين” التي قام بنشرها المستشرق “الفرنكو – بولاندي زوتبرغ” في باريس عام( 1988م) لم يكن دقيقا في الترجمة والنقل فأسم البطل يكتبه (عليا الدين)، حتى جاء “الصباغ” ونقلها الى مخطوطة اخرى واتقن كتابتها لاتقانه اللغة العربية .
أما حكاية “علي بابا ” التي قام بنشرها المستشرق ” ما كدونلد” في عام (1910م) ثم تعاقب عل نشرها مستشرق أخر “تشارلز توري” عام (1911م) ، وقد تعرضت أصالة الترجمتين الى التشكيك ؛ذلك أنهما ترجما الحكايتين من ترجمة “انطوان غالان ” الفرنسية الشائعة والصادرة بين عامي (1704-1717م)، وكان “غالان ” قد اعتمد على اكثر من نوع من المصادر ، من اهمها المخطوطة التي يرجح تاريخ نسخها الى اوائل القرن الرابع عشر الميلادي ، على ين ارج المستشرق الالماني ” هاينز غروتزفيلد” هذه المخطوطة الى القرن الخام عشر الميلادي ولكن هذه المخطوطة تحمل عنوانا لا يتطابق ومضمونها ؛ ذلك أنها مكونة من (282) ليلة فقط، على حين يحتوي الكتاب الذي ترجمة ” غالان “على الف ليلة وليلة معدودة ، اذ جلب الان حكايات وقصص جلبها معه من المشرق ليس لها علاقة بالف ليلة ، كما هي الحال بالنسبة مثلا الى قصص “السندباد البحري ” التي اقحمها بترجمته بعلم أو من دون علم من أن عملية مشابه كانت تجري بمصر، وغيرها من القصص.
وعليه فان كتاب “ألف ليلة وليلة” ، هو أحد أهم مأثوراتنا الثقافية، فقد حاز على شهرة عالمية واسعة، وكان له تأثير كبير في الأدب الأوربي، وليس كما شاع عنه في الأوساط الثقافية، العربية منها والأجنبية، أنه مترجم عن أصل فارسي يدعى «هزار أفسانة» أو «هزار أفسان»، ومعناها «ألف خرافة»، أو كما أدعى بعضهم أن كتاب «مائة ليلة وليلة» كان أسبق منه في الظهور، وهذا وذاك فالكتاب ليس مترجماً عن أصل أجنبي، بل هو في أصله وكما اثبت “سامي مهدي ” ومعاصريه بالأدلة أنه نتاج بيئة عربية إسلامية عباسي، بل عراقية الاصل تنتمي إلى أواخر القرن الثالث الهجري، عبر إحالات تاريخية واجتهادات بحثية شخصية في غرر الكتب التراثية التي تعدّ مصادر بحثية أساسية.
المصادر المعتمدة:
– مروج الذهب ومعادن الجوهر، ابي الحسن بن علي المسعودي، تحقيق داغر يوسف اسعد ، مؤسسة دار الهجرة ، ايران، 1909م.
– الفهرست ، أبو الفرج محمد بن محمد الوراق البغدادي المعتزلي الشيعي المعروف بابن النديم ،تحقيق ابراهيم رمضان ، دار المعرفة ، بيروت ، ط2، 1997م.
– موسوعة السرد العربي ، د.عبد الله ابراهيم ، دار الفارس ، عمان ، 2008م.
– ألف ليلة وليلة ..كتاب عراقي أصيل، قراءة جديدة، دار ميزوموتاميا، بغداد،ط1، 2014م.
– المؤلف المجهول في القصص الأشهر في العالم العربي ، عواد علي، جريدة العرب17، عدد 9975، سنة 38، مقال
-الوقوع في دائرة السحر الف ليلة وليلة في نظرية الأدب الانكليزي 1704-،1910 ، د. محسن جاسم الموسوي، دار الشؤون ، بغداد ،ط2، 1986م.
– مقابلة مع الدكتور محسن مهدي للعربية نت بتاريخ :الثلاثاء 7 ربيع الأول 1436هـ – 30 ديسمبر 2014م .
د. مسار غازي – جمهورية العراق
اترك تعليقا