سيتوقف العالم يوماً ما ليدرك حقيقة أنه بعد كل هذه السنوات الطوال من الأبحاث التي أُجريت على كل ما اقترن بالحياة وما لم يقترن ، سيظل الإنسان هو التجربة الأهم والأغرب والأعقد والوحيدة التي لم تنل القدر الكافي من الاهتمام كما أنها الوحيدة التي لم تأتِ بنتائج واضحة وقاطعة نستطيع تعميمها على سائر البشر، فلتنظر لأفعالك وأقوالك ثم ضع في الحسبان تلك القيم والمبادئ التي نشأت لها ثم أضف القليل من عاملي الزمان والمكان، ولتخبرني بعد ذلك الخليط المُتقن عن نمط سير الإنسان الذي نستدل به، البعض قد يرضي عن نفسه وما شابها من عيوب والبعض لا يرضي، ولكن قد أتى حين على ذاك الراضي كان به ساخطاً، البعض حارب لمبادئه وانتصر لها والبعض لا، ولكن أتى حين على ذاك المحارب القي سهامه أرضاً، البعض قد أصبح وبات لا يرجو من الله سوى أن يعود به لنقطة قد اخطأ حينها ففسد ما بعدها، ثم أمسى ذات ليلة يدعو لأحدهم ألا ينال لقاءاً بالحزن وكل ما يخالطه، ثم أصبح فتذكر أنه قد نسي نصيبه من الدعاء، فابتسم لأنه لم ينسي من هو أجدر منه به.
إن كان الحديث هنا عن متناقضات الإنسان فلا أظن أن التاريخ الأدبي لهذا الكوكب البشري الفاضل قد خلت إحدى صفاحته من أحدها، ولكن يظل هذا الفصل الذي يتحدث عن تلك القصة الأزلية الممتعة والتي حملت للحقيقة أكثر بكثير مما ساقته حبكة الأقلام في التجويد عن ذلك الشخص الذي يعلم جيداً كيف يسير وحيداً فأدمن الابتعاد، ثم صار بين ليلة وأخرى (إن طالت المدة لكل هذا) يفسح الطريق لأحدهم بالمسير، لم يكن الغريب حتى أنه قد سار مُجاوراً لأحدهم بل جعل له الولاية من الأهمية، فإن كان تعثره بمثابة نجاة للأخر، فسيقدم لنا هذا الشخص عرضاً اسطورياً تتحدث به الأفواه عن براعة التعثر وكيفية القيام به. هي إحدى تلك القصص التي تضع في منتصفها علامة بارزة لتتذكر كلما امسكت بها أن ما قبل تلك العلامة يصلح كرواية مستقلة بذاتها وما بعدها يصلح كرواية أخرى لشخص اخر وهنا حيث تلك العلامة حيث بدأ كل شيء، وتدرك حينها أن تحول دفة الأمور برمتها وإن كان مستحيلاً في عينيك ولكنه في الحقيقة أبسط مما تتخيل، لا يستدعى الأمر في بعض الأحيان سوى ابتسامة من أحدهم فتكون بمثابة تلك العلامة التي أينعت قصتين.
فلتضع كتابك أنت تلك المرة جانباً ودعني أخبرك بقصة أخرى جديرة بالسرد ولم تعرف طريقها إلى طيات الصفح حتى الآن، ويكفى بأن تعلم أن صاحبها ما زال ها هنا يسمع ويرى، وإن ثار عارماً فلن يكون لنفسه، بل لمن أتى فحل محل نفسه. هو ذلك الشخص الذي إن أمسك حبلاً بيده ليرفع وزناً بالغ الثِقل وعلم أنه بحاجة لشخص آخر ليقوى على رفعه، مدّ يده الأخرى قائلاً للحبل ها أنا قد جئتك بشخصٍ آخر فلتأتيني إذاً بذلك الوزن اللعين في الحال، هكذا اعتاد أن يكون، هو ذلك الشخص الذي إذا أحتاج إلى عناقٍ طويلٍ يستطيع أن يزيل به آثار التعب والمشقة التي لاقاها في يومه، لفَّ ذراعيه حول كتفه قائلاً لنفسه لا تحزن فمازلت هنا من أجلك، فنرى ابتسامة طفيفة بدأت أن تلوح في الأفق، وبدأت على إثرها تتراقص الأقدام يميناً ويساراً في وقعٍ من النغمات المتجانسة، لن تستطيع أبداً أن تفهم كيف لشخصٍ واحدٍ أن يصنعها، من الممكن أن تكون عبارة (يجب أن تكون كل شيء بالنسبة لنفسك) قد مرت بك مسبقاً، ولكنك لن تفهم أبداً معنى تلك العبارة حتى ترى هذا الذي يُراقص نفسه.
كان كل شيء يسير كالمعتاد في تلك القصة ولم يكن أحد يعلم أننا فقط في طريقنا نحو تلك (العلامة) التي ستقلب موازين الأمور رأساً على عقب، لا يشبه الأمر إحدى تلك المواقف التي يمكن أن تغطيها الكلمات فقد خُلقت تلك المشاهد لكى تعيشها فقط أو تراقبها عن كثب، نحن هنا أمام رجل اعتاد أن يسير وحيداً متفرداً حتى وإن فاض الكون بشراً من حوله، ليس برغبته ولسنا هنا لنعلم كيف آل به الحال إلى هذا ولكن هو ذلك الذي لا يصادف في طريقه سوى الحجارة تلو الأخرى والتي لم تلبث أن تسكن مكانها مكتفيةً بإعاقة سيره، بل تأتى متطايرةً من كل حدب وصوب ليس لها غرض سوى تحطيم نوافذه، لنا أن نتخيل كيف يتوقع هذا الرجل أي طريق ستخطو قدميه نحوه، ثم يأتي ذات يوم على هذا الذي اعتاد ألا يصادف إلا الحجارة عند قدمه فيجد نفسه أمام وردة لا يظن أنها قد عرفت يوماً للناظرين سبيلاً، يتوقف تلك المرة عندها في حدث عجيب يعلمه جيداً كل مراقب له على جنبات الطريق، ثم يدنو منها ليعلم كيف عرفت طريقها نحوه، ثم يُدرك حقيقة الأمر الذي عجز عن إدراكه كل تلك المدة من المسير المؤلم، فإن طال المسير مهما طال فقد كان من أجل هذا اللقاء، ولن تعلم كم كان هين هذا الذي لاقيت في طريقك حتى ترى ما كان يخبأه لك القدر في نهايته، حتى وإن ظننت أن تلك الوردة قد وقعت في طريقك عن طريق الصدفة، فلن يستغرق الأمر بضعة ثواني حتى تعلم أنها الوردة الوحيدة التي ستصادفك في طريقك بل أنها الوحيدة الباقية في هذا الكون الشاسع ولقد ادخرها لك القدر، هي تلك الوردة التي أزالت كل آثار البؤس والشقاء التي خلّفتها وحشة الطريق واستبدلتها بابتسامة المحب الذى أدرك أنه لم يسر كل هذا الطريق هباءاً.
عندما تضع في الاعتبار كل تلك الأحداث التي ذُكرت مسبقاً، لا أجد أبداً أنه من العجيب لرجل مثل هذا أن يجعل من وردته (كما أصبح يناديها) شغله الشاغل بل كل عالمه، فلتخبرني أنت ما الذي جاء قبلها ويستحق أن يتم سرده؟! ما كان قبلها إلا بعض الحبر المتناثر على الأوراق والذي قد ضاع هباءاً، وما خلّف إلا بعض الوريقات الذي لن يتردد في انتزاعها انتزاعاً من قصة حياته، هنا حيث بدأ كل شيء وبات لها كل شيء، لا تظن أن الطريق قد خلا من العثرات والحجارة حينها، بل على النقيض تماماً فقد ساء طريقه بشكل غير مسبوق وكأن الكون بما فيه قد صار ناقماً حاقداً عليه، وتجده يسير ها هنا ضاحكاً راضياً محدّثاً نفسه: ” أعلم لمَ كل هذا الآن، ومن سواي يمتلك مثل ما أمتلك الآن، فليأتيني الطريق بأسوء ما لديه”. قد كان يُحارب مسبقاً ألا تنال منه الحجارة وتقضى على الأنفاس القليلة الباقية لديه لاستكمال الطريق، والآن تجده يتعالى في الضحك إذا اصابته تلك الحجارة ولم تنل من وردته التي يسير حاضناً لها يخشي عليها حتى من نفسه، هل له أن يرجو رجاءاً واحداً الآن ويتمنى العودة لتصحيح كل تلك الأمور التي أدت به إلى السير وحيداً منذ البداية؟! لن تنتظر إجابتي فأنت تعلم أنه لن يفعلها، فبالنسبة له قد بدأ الطريق فقط عندما وجد وردته التي اعتاد الآن أن يسقيها شعراً
عبثاً تحاول لست هذا الذي .. إن بَصرَ عَثرةً قد لاحت رايته
لها الخُوضُ قد صار خُوضاً .. حتى وإن نال ما ينال منى
وهذا النَصَب لا قِبَلَ له بي .. وإن طالت اقامته
كل عُذرٍ تهافت له غيرى .. معي لا يُثمر ولا يُغنى
أنا الذي جعل من طريقها .. وفقط طريقها كل غايته
فإن كان سقوط الأغصان سيبقيها .. فسأُسقط لها غُصني
محمود محمد فهمي – مصر
اترك تعليقا