ربما في تلك الحياة التي نحياها من أراد كل شيء خسرَ الشيء الوحيد الذي يُعادل كل شيء، فلو أن كل مُبتغَى له من مَشقَّة الطريق نفس النَصَب لما كان للذة الوصول من معنى، سيجمعنا نفس الطريق بنفس حماسة الوصول إلى ما نسعى وربما سنتشارك أيضاً ما حملناه على ظهورنا عَوناً على استكمال الطريق، ولكن لن تجمعنا أبداً نفس النهاية ولن نتلاقى هناك، فأحدهم قضى عمره سائلاً من الأرض أن تقذف به إلى السماء فهناك حيث ينتمي (كما ظنَّ)، وآخر يعلم أن قدماه لن تغادر الأرض يوماً ولكنه سيظل حالماً بالقمر رغماً عن هذا، وما لم يجمعنا اليوم بُعداً ربما ننال منه في الغدِ وَصلاً، فما كان الحُلم سوى أملٍ تعلّقت به العيون، وما كان عند مالك الأمر سوى كافٍ ونون.
في تلك الرحلة الطويلة لا بأس من أن تُرافِق نفسك ببعض الكلمات التي ما إن تقرأها حتى لتعلم لماذا بدأت هذا الأمر كله، فتكون بمثابة رشفات الماء التي تُخفف عنك شَصَب الطريق، كهذا التي تعلّقت يمناه بورقةٍ خطَّ فيها قوله تعالى ( قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ )، فلك أن تسأل نفسك عن تلك العسرة التي ستواجه هذا الرجل وتدفعه إلى التراجع عن استكمال الطريق!! أَنَّى لها أن تكون وهو يعلم أن الأمر كله بيدِ الله، فيأخذنا هذا إلى نقطة الصراع الإنساني التي ربما لم يطغى عليها أي شيء آخر إلى يومنا هذا، فمنذ أول قدم قد أصابت تلك الأرض وقد علم القاصي والداني والمؤمن والكافر والعالم والجاهل أن السؤال في غيرِ موضع السؤال هو أول دروب العبث التي عرفتها الأرض، فكيف لك أن تسأل من ليس بيده الإجابة، وكيف للإنسان لا يعلم أن المستحيل قد جاء بعد ظهورنا في تلك الحياة وقد علم أننا نحب أن نُلقي بكل فشلنا عليه، فذاع صيته منذ ذلك الحين، من طلبَ المستحيل الذي اسميناه مستحيلاً ليس بخَرِفٍ بل مؤمنٍ علم أن المستحيل له رب إن كان له أن يسأل نواله فما عليه سوى قصد باب خالقه، ولكن كيف للإنسان أن يعيش بهذا السلام الذي تُدركه أبسط العقول، فمازلنا وبكل جدارة أغرب تلك المخلوقات التي وطأت الأرض في يومٍ من الأيام، سنصنع لأنفسنا أزمةً إذاً ونعيشُ على أمل أن تُحَل من تلقاء نفسها.
بعضنا كان لهم من الحظ أن يتشاركا هذا الطريق سوياً فيغدو السبيل ثُناً ثُناً لهذا الناظر من بعيد، وآخرون لم تكن لهم الخيرة من أمرهم لاختيار رفيق الدرب، ولكن ربما لم تكن رحلتهم في ذلك الطريق الطويل الذي أسميناه حياة سوى بحثاً عن هذا الرفيق الذي ما إن حضر إلا وحضرت معه تلك الاستراحة التي لم تعهد منها لقاءاً طويلاً ولكنك تسعى لها رغم ذلك، وعلى طريقٍ غير طريقنا آخرون ليسوا بالرِفاق ولا الباحثين عن رفيق، فبالنسبة لهم يبدوا الطريق أقصر بكثير مما تتخيل ليبحث الإنسان عن شيء سوى نفسه، وإياك أن تكون أحد هؤلاء الجهلاء ممن يظنون أن ذلك بالأمر السهل، فما هَلكَ قبلنا سوى أقوام هاموا بما وهموا، ظنوا أنهم قد استطاعوا لهذه الدنيا وأعدوا لها عُدادها، وليس مثل هؤلاء سوى هذا الذي قضى عمره محاولاً أن يُمسكَ بحفنةٍ من الماء ويُقنع نفسه أنه سيكون أول القادرين على ذلك، وما دانت الحياة بمثل ذلك لمن قبلك يا فتى، فلو كان للماء من فائدة بين قبضتيك لكان لك أن تقبضه منذ علمت أن لك قبضة.
بين كل السائرين على هذا الطريق تعود لتنظر مراراً و تكراراً لهذا الذي تعلّقت عيناه بالقمر وكأن حديثاً يدور بينهما ولا يستطيع أحد آخر سماعه، وكأن القمر يقول لقاصده أما آن لك أن تتعب، فما زلت رغم كل شيء تفتح نافذتك من أجلي، فيُجيب وعيناه تبحث في السماء عن أي شيء آخر قد ينال جدارةً أن يحظى بنظرةٍ منه: رغم كل هذا الوقت وكل هذا العناء الذي صاحب المَسير فمازلت لا أجد من الريب في أمري، فالقمر يبصره القاصي والداني قمراً، ولكنه لن يعلم أن صُنعَ النوافذ حيكَ فقط لأجل حظي، وهذا الكون ومن فيه لن تجد منهم من عقد العزم على استكمال طريقه مهما تطّلب الأمر مثلي، وكيف لهم أن يكونوا مثلي وأنا الذي قد ساوره الجنون وطَالبَ بالقمرِ قائلاً ليس أنا هذا الخَبِل بل أختاره قلبي، و أعلم أننى أرجو ما لم يتجرأ أحدٌ على طلبه من قبلي، ولكن كيف لي أن أحيا وتلك الصورة لا تغادر ذهني، كيف لي أن أحيا مع تلك الحاجة في صدري، وأعلم أن السعي له ربما لن يكون بالكافي لنوالِه ولكن ما زلت أرجو من الله أن يكون لقاءنا هو قدري، فلتأتِ الدنيا بما تأتِ به، وليذهب كل قاصد طريق في طريقه، وليسأل كل صاحب سؤال سؤاله، وستظل أنت كل ما أرجو يا قمري.
محمود محمد فهمى – مصر
اترك تعليقا