حسنا، لنبدأ بالثقافة أولا، ما ميادينها؟ ما دورها في توهج المجتمعات؟
إن الثقافة مفهوم واسع، تتعدد تعريفاته بتعدد وجهات النظر إليه، بيد أننا نحن نود أن نستعمله للتلميح إلى ميادين الرقي بالنفس البشرية كالآداب، شعرا ونثرا، وكل ما يرتبط بمجالات الإبداع والفن، وما من مشكل إذا ما ربطناها بقضية تحول وتطور المجتمع، ولا بد لكل الميادين المذكورة سلفا أن تنخرط بوعي والتزام في صيرورة النماء. إذن هي الثقافة في ربطها مع واقعها الموضوعي، منه تستقي مشروعها ومفاهيمها، وترسم خارطة طريق لتعطي لنا آفاق رحبة، لكن الطريق ليست مفروشة بالورود…
“إنها القاعدة في كل العصور: كلما انحازت الثقافة إلى جديد ضد القديم، إلى المتغيّر ضد الثابت، إلى النار ضد الرماد، وإلى الحياة والحلم، اضطُهِدت واضطُهِدَ المثقفون، أحباءُ الحرية و الآفاق الزرقاء الرحبة” مهدي عامل. الثقافة والثورة.
لنغلق هذا القوس…
نعتقد أن الثقافة انطلاقا مما سبق مشروع وجب السير به قدما، ووجب على الجميع الإسهام فيه، وذلك بغرض خلق أجيال منفتحة على محيطها وعلى عالمها، قادرة على تملك العقل النقدي، أجيال تؤمن بالإبداع وتثمن كل ما يصبوا إليه، أجيال منتجة وفاعلة، لا كالتي نشهدها حاليا، حيث أننا أمام ميول جامح إلى الاستهلاك، استهلاك من أجل الاستهلاك، من أجل الظهور، من أجل التباهي، تحدثوا كي نراكم، ثقافة بالية وجامدة وخنوعة وقنوعة، لا تصبوا إلى شئ غير ما سبق ذكره… هو نمط حياة خاطئ، فالحياة بدون ثقافة تصبح خطأ، قرأت هذا القول يوما ما للأستاذ عثمان بيصاني. ومع كل نقاش مرتبط بهذا الشق، يتراقص في أذهاننا التساؤل حول لمن تعود المسؤولية فيما وصلنا إليه من ضحالة التفكير وبؤس الثقافة، هل نحن ضحايا أم مجرمون؟
بدون أن نطيل الشطحات النظرية، نحن من ناحية ضحايا، ومن أخرى فنحن متورطون. نحن ضحايا كوننا أمام مشروع عالمي كبير وقوي ومتسلط يصبوا لخلق التبعية لأكثرية تتعرض لشتى أنواع العنف، رمزيا وماديا، ضحايا هيمنة مشروع غربي امبريالي لا يدع أي فرصة لمن ينافسه. تولد لنا بهذا وعي شقي، عصي على المعالجة.
نحن شركاء فيما يقع كوننا لا نتجرأ على استخدام عقولنا، لا نسعى لأن نضع القديم في موضع نقد وتمحيص بل وتجاوز، نحن “تقليدانيين” لا نصبوا للجديد ولا لأي إبداع خلاق. مع أي محاولة للتفكير أو التساؤل، تشلنا كلمة “لا تتفلسف”، آه لو تفلسفنا، آه لو فكرنا ولو قليلا، نحن جيل الانكماش، ولكن هل فات الأوان؟
ما دامت الحياة مستمرة، فكل شيء وارد، لا زالت الفرصة لتدارك ما فات، ولكن بما نبدأ؟ الأولوية للثقافة دوما، وهذا ما نود أن نقوله من خلال كتابتنا حول هذا الموضوع، الأولوية ينبغي أن تعطى لمن يحمل رسالة ورؤية ثقافية تتلاءم مع متطلبات العصر، هذا مشروع مجتمعي يعززه تاريخ المجتمع المعني، عن طريق العودة الواعية إليه، لفهم جذوره، واستكناه خباياه، وهذه العودة للماضي ليست بكاء على الأطلال، إنما استنباط للدروس والعبر، لتجاوز ما يسميه العروي بالتأخر التاريخي. لكن كيف ذلك؟
أولا عن طريق استدعاء ذوي الخبرات، المثقفين النزيهين، ووضع الرجال المناسبين في أمكنتهم المناسبة، واحترامهم وإعطائهم المفاتيح لتكوين الأجيال ومرافقتها لكي تعطي اهتمامها للمسرح ودور الثقافة وشتى المنابر الأخرى وتنفض الغبار عن الكتب التي طالها الإهمال وظلت حبيسة الرفوف، وعلى ذكر الكتب، لزاما أن نتطرق إلى دورها ولو في سطر واحد أو أقل، هي ثقافة القراءة التي ينبغي العودة إليها وزرع حبها في القلوب، ومن هنا جعلها غاية من أجل الفهم والاستيعاب والمساهمة في النماء، لا أن تكون طريقا لفيالق ممن يريدون الظهور بزي المثقفين وكسب الشهرة أو ما شابه.
حضرت لملتقى شعري وطني، وبينما كان الحاضرون يتصفحون المؤلفات المعروضة، تحدث أحد الأساتذة الجامعيين بعدما اطلع على عنوان ديوان شعري لأحد الكتاب الشباب، قال باستهزاء، “لقد أصبح الجميع شعراء فكثر الشعراء وقل الشعر”، تدخله بهذه الشاكلة أثار غضبي لكني لم أرد عليه احتراما لمقامه العلمي،غير أن الأمر الذي وددت لو قلته له هو أن مثل هكذا أقوال لا تطور الشعر ولا الشعراء ولا الميدان الثقافي، فوظيفة الأستاذ أصلا هي تشجيع المبادرات والإبداعات الشبابية والنقد وجب أن يكون بناء، وتساءلت بكل أسف، كيف لأستاذ في مثل مقامه المعروف بغزارة انتاجاته أن يعطي حكما أمام مرأى شباب طموحين مبتدئين، ودون أن يقرأ المؤلف، اكتفى بالعنوان، لماذا لم يأخذ الكتاب ويقرأه ويعطي لناشره ملاحظاته ومؤاخذاته قصد تجاوزها مستقبلا، ولنجدد القول أننا لا نولد لا شعراء ولا أدباء بل نصبح كذلك بفعل توجيهات ذوي الخبرة ربما، وبالمطالعة المستمرة والعمل المتواصل والطموح…
هذه الحادثة أبانت عن هوة شاسعة بين الطاقات الصاعدة والفاعلون في الشأن الثقافي، ما يعزز رؤيتنا في غياب سياسة ثقافية قائمة أولا على مقاربة تشاركية لا تقصي أحدا وتتجاوز مختلف الحسابات الراسخة في المجتمع وتسعى لتجاوز مخلفات الفكر الرجعي الذي لا يمكن له أن يسهم إلا في تمويه الأمور ونفي الثقافي بل واغتياله.
الثقافة في لبها انعكاس لمختلف البنيات المجتمعية، فهي التي نقيس بها مقدار تقدم أو تأخر أي مجتمع.
محمد هروان – تنجداد، الرشيدية
اترك تعليقا