الحرية هي النسيان، الحرية في النسيان، مع النسيان، كل تذكر هو تقيد، هو العود الأبدي إلى السلاسل، إلى القيود والى كل ما يكبل المرء، إلى كل ما يكبح جماحه. أشهد أنني حر حين أنسى، قالها درويش، وأضاف جبران خليل جبران قائلا: النسيان شكل من أشكال الحرية. أسافر كي أنسى، أذهب إلى النسيان، فهو لن يأتي إلي، أريد أن أنسى الجنوب، أن أنسى أني ابن الجنوب، ولكن مثقل أنا بذكرى الزمان والمكان. هل سأنساه فعلا؟ وأي انتماء أختار حين أنساه؟ هل سأبقى أنا أنا؟ لحسن حظي أن كل ما يبقى في الذاكرة هو ما نود محوه منها بقوة. هكذا أنا حائر بين الشمال والجنوب.
نعم، أنا ابن الجنوب، أسافر عبر بلاد، هي كذلك جنوب، بالنسبة لشمال أخر، كل جنوب له شماله، كما لكل شمال جنوبه، نحن أيضا في الجنوب لدينا جنوب، وأنا مصاب من الملل بعد أسفاري العديدة في جنوب الجنوب، ها أنا ذا أقرر السفر إلى شمال الجنوب، شمال جنوب الجنوب، الزمن كان صيفا في سنة من سنوات عمري.
أتيت إلى أوربا زائرا، زائرا فقط، لا أود أن أعمر هذا المكان طويلا، أتيت كي أعرف الشمال، وكي يعرفني، كي يعترف بي، كما اعترفت به حين قررت المجيء إليه، هذا الشمال قاتل، على الأقل بالنسبة لي، لا أحس بالوقت هنا كما أحس به في الجنوب، هناك حيث الزمن بطيء، يخيل لي أحيانا أن الساعة هناك معطلة، الناس لديهم هناك الوقت الكافي للجلوس حول كأس شاي أو حتى حول لاشئ، لديهم كل الوقت ليتحدثوا عما حدث وحتى على ما لم يحدث وما كان مفترضا أن يحدث، ليس منذ يوم أو يومين ولكن يسردون ولا يملون من ذلك مشوار قرون، لا يأبهون لشيء اسمه الوقت، لا يعرفونه ولا يتصورون له أهمية كما يفعلون هنا في الشمال، الوقت قاتل لكن في الجنوب مقتول. أحس هنا في القارة العجوز أنني أغازل امرأة طاعنة في السن، تعرف كل شيء عن المضاجعة، لكن فات أوانها، لم تعد صالحة لذلك، أما الجنوب فهو شابة يمكن مضاجعتها، لكنها لا تجيد ذلك، هذا هو الفرق بين أوربا والجنوب.
أتيت كي أعي معنى الزمن والإنسان والأشياء، لا أقول بأن الجنوب لا معنى فيه لكل هؤلاء، لكن لكل سياق خصوصياته، وفقا لمناخ وطبيعته وتاريخه، قد أجد هنا معنى أعمق، لا أعرف، أنا هنا لأبحث، هنا حيث الفضاء ممتلئ، بالناس والبنايات والأشياء، هنا الوقت يمر بسرعة، لا يكاد المرء ينتهي من العمل حتى يجد نفسه مضطرا للاستيقاظ للعمل من جديد، العمل ثم العمل، هي الكلمة الطاغية على كل الأفواه الموجودة هنا، لا وقت لدى الناس للأحاديث الفياضة، إنها بالنسبة لهم مضيعة للوقت، إنها الطريق إلى الحميمية والعفوية، وهما هتك بالفردانية، وهذا ما يرفضونه، ليس كما نحن عليه في الجنوب، ما أن تضعك الأقدار جنب رجل أو امرأة في الحافلة، حتى تأخذ بالنبش حول، ابن من أنت؟ من أين أصلك؟ كيف هم أهلك؟ وقد تعرفهم حق المعرفة، فالناس في الجنوب يعرفون بعضهم البعض، أو بعضهم يراقب البعض، بالأحرى.
هنا في شمال جنوب الجنوب، لا يستدير المرء ليرى ما خلفه، لا فهو منشغل أيما انشغال بوجهته، بقصده، إلى أين يمضي، لا من حيث أتى، هنا الشمال حيث المرء لا يجد الوقت الكافي ليستدير، أو بالأحرى لا يقدر على ذلك، فقد يستدير وتصدمه مركبة تمر بسرعة، وتحمله أخرى على وجه السرعه، وينتهي كأنه لم يكن، وينسى كمصرع طائر، أما في الجنوب فقد يلغي المرء مواعيده للانهماك في محادثة تافهة، في حديث من أجل الحديث، قد يغير الطريق إلى العمل بأخرى تقوده إلى المقهى، حيث الكلام الذي لا ينتهي.
أنا هنا وحدي في الشمال، لا أحد يقتسم معي وحدتي، لا أحد يجد وقتا لذلك، على عكس الجنوب، هناك حيث لا مجال للوحدة، أفتش عنها فلا أجدها، في الجنوب محكوم علينا بالانصياع للجماعة، لا مجال لك الحق في العزلة والتفرد، وإلا ستعرف بأنك ممن يسعى ليخالف كي يعرَف، حين أجدها تكون كالبلسم، حلوة مليئة بالمعنى، الوحدة رائعة حين نختارها، بيد أنها طاغية حين تختارنا، هي محطمة وقاسية لا تعي معنى الرحمة.
محمد هروان – تنجداد، الرشيدية
اترك تعليقا