« لا شـيء يـجـعـلـك عـظـيـما إلا ألـم عـظـيـم، فـلـيـس كـل سـقـوط نـهـايـة فـسـقـوط المـطـر أجـمـل بـدايـة…»
كلـمـات قـاتـلـة قـاتـمـة، هي آخر ما كتبته التلميذة ‘مريم هاسك’ في مذكرتها قبل إقدامها على عملية الانتحار سنة 2014.
مريم – رحمة الله عليها – التي قالت لوالدتها ذات يوم: _ يا أمي ما دمت تعيشين في هذا الحي – حي الكَرْيَان – فلماذا أنجبتني؟!
عـتـاب صـارخ من مريم إلى أمها، بل عتاب إلى هذا العالم اللا مبالي، هذا العالم الذي يغرق في صمته، كأنه يعيش في غيبوبة…
عالم أصابه البكم لا يتدخل، فقط يشاهد تخريب الذاكرة، ويكتفي بتوثيق النكبات.
مسكينة مريم – ومساكين نحن – لم تكن تحلم بشيء مستحيل وغير عادي، بل حلمها كان في ظل الممكن والعادي، حلم بحياة طيبة تضمن كرامتها، وليس العيش في هذا الواقع المرير، الذي تلتقط فيه أذنها كل يوم نعوتا من صديقاتها؛ بأنها مجرد بنت “الكَرْيَان” فإذن هي نكرة.
هذا يدفعنا للتساؤل وتساؤلاتنا لا تنتهي…
لماذا يقدم شخص طبيعي ومتدين – أحيانا – على الانتحار؟
أهناك أشياء تدفع المنتحر ليضع حدا لحياته ؟
أي تعاسة حلّت في نفسه، وأي ظلام خرّب خلايا قلبه؟
أي أفكار تتدفق في عقله وهو يودع هذا العالم؟
تساؤلات لا تحتاج أي إجابة، مادام كل شيء واضح كوضوح الشمس في كبد السماء.
إن معظم المنتحرين لم يجدوا من ينصفهم في هذا العالم الظالم أهله
لم يجدوا أبدا يدا تمتد إليهم؛ ليعدلوا عن فكرة شيء اسمه الانتحار !
لو وجدوا – المنتحرون – شخصا واحدا وساعدهم على طرد تلك الفكرة، ما أقدموا على ذلك…
في مجتمعنا العربي لا ينتحر شخص ذو مكانة وسلطة وجاه، و إن حصل ذلك يكون نادرا…
على غرار دول العالم المتقدمة، فإن النسبة العظمى فيها من المنتحرين تضم الأثرياء والمشاهير والمثقفين…
أما في بلداننا، عِلَل الانتحار لا يختلف عليها اثنين، كله يصب في نهر الظلام، الجحيم، البطالة، الفقر، البؤس، الظلم…
بطالة قهرت العقول وتعيش في بؤس جلباب الآباء، وفقر خطف الأحلام وامتطى ظلم التعاسة التي تسير نحو بحر النكبات…
فالتلميذ يقدم على الانتحار إذا تعثر دراسيا
طبعا، ليس حبا في التعليم ولا عشقا للدراسة…
إنما لكونه ربط ميكانيكيا عبر محيطه ونظامه التعليمي، أن السقوط والفشل وعدم الحصول على شهادة بميزة مشرفة لن تفتح له باب الوظيفة؛ وبالتالي سيظل نائما في براثن الفقر؛ لأنه يدري كونه يعيش في مجتمع لا يؤمن إلا بالقوة والسلطة التي لا تتجلى – حسبه – إلا في وظيفة مع الدولة.
آه، لو يعلم هذا المنتحر، وذاك التلميذ، وذلك الطالب، أن هناك مئات، بل الآلاف، ولا مغالاة إن قلنا الملايين !!! يحملون شواهد عليا وهم في أسفل السافلين، لا يشتغلون، لا ينتجون، لا يبدعون، تم تهميشهم وإقصاؤهم ونفيهم من هذه الحياة…
صاروا يعيشون على أمل العيش!
و يفكرون على أمل التفكير !
ويحاولون على أمل المحاولة !
فقراء ينهون حياتهم؛ لتنتهي تعاستهم ويفرون من الجحيم، من المعاناة، من الخيبات، من الانكسارات، التي لا تنتهي ولا يعرف لها نهاية.
شقي لم يجد شمعة يقرأ عليها !
ولا كسرة خبز يقتات منها !
ولا عمل يبعده عن الرذيلة !
لم يجدوا رحمة في أولئك الذين يملأون المساجد، أنهم لو أخرسوا قراقر بطونهم أولا !
ولا الأثرياء الذين يسبحون في مسبح الدنانير، أن يفتحوا لهم أبواب الرغيف !
لا أحد اختار وأراد وفضّل أن تكون نهايته بيده، ولا آثر الموت على الحياة – كلنا نعشق الحياة –
الانتحار لهؤلاء الأشقياء، كان آخر طريق وآخر حل وآخر اختيار يلجأون إليه، بعدما أغلق العالم أبوابه وأطفأ مصباحه !
الإحساس بالإحباط، وأنه لم يعد لك دور في هذا العالم الكئيب؛ يبث الهزيمة في النفس التي تقودك دون تفكير إلى نقطة النهاية… وما أحزنها من نهاية !
لو فكرنا قليلا، لحسبنا أنفسنا حسابا عسيرا – لا يسيرا – لأننا لم نُقدّم شيئا ولا أي شيء. دائما نلومهم ولا نلوموا أنفسنا، ولا الذين سببوا لهم الجروح والآلام التي خنقت أنفاسهم فاختنقوا معها.
مجتمع أناني يفكر خارج الجماعة، دفع أولئك الأشقياء إلى حافة الجنون، إلى جرف الموت، إلى جدار التعاسة، وتركهم هناك وحيدين يعانون في صمت، فاختاروا الصمت وغادرونا.
خرجوا من باب الجحيم إلى باب السماء…
سماء قد تنصف أرواحهم، بدل أرض جرداء لم ترحم يوما ضعفهم.
محمد بن صالح – مدينة تازة
اترك تعليقا