بعد أن تحدثت في الجزء الأول من هذه المقالة عن التيار التجريبي من داخل الفلسفة الحديثة، سأتطرق في الجزء الثاني من مقالتي هذه للتيار العقلاني.
يرجع ظهور التيار العقلاني إلى الفلسفة الإغريقية وبالخصوص الأفلاطونية، لكن في هذه المقالة كما سبقت الإشارة سنتحدث عن التيار العقلاني من داخل الفلسفة الحديثة، على اعتباره واحد من المواضيع الفلسفية ذات أهمية كبيرة في هذه الحقبة إلى جانب التيار التجريبي.
*ما هو التيار العقلاني؟
التيار العقلاني، ان الحديث عن التيار العقلاني هو حديث عن توجه فلسفي يدافع على العقل باعتباره هو مصدر كل ما يمتلكه الإنـسان من معارف، فالإنسان حسب هذا التيار يولد حاملاً لأفكار فطرية يؤسس عليها أفكاره ومعارفه المستقبلية.
هذا التيار العقلاني وعلى عكس التيار التجريبي يعتبر أن مصدر المعارف عند الإنسان هو العقل، وبالتالي فالمعرفة الصادرة عن التجربة معرفة باطلة غير موثوقة تكون عرضة للوقوع في الخطأ وعدم الوصول إلى المعرفة اليقينية.
فالحواس تخدعنا، وهي لا تعرفنا إلا بالمظهر المتغير.
وبالحديث عن التيار التعقلاني نستحضر بعض معالم الفلسفة الديكارتية، الفلسفة التي تدافع عن المنهج العقلي بقوة.
وهذا ما نجده في معظم كتابات الفرنسي “رونيه ديكارت”، كيف لا وهو صاحب المنهج الشكي القائم على “مسح الطاولة” وإخضاع “الحقائق” أو ما يقدم نفسه على أنه حقائق إلى محكمة الفحص العقلي.
حيث يقول: (أن لا أتلقَّى على الإطلاق شيئاً على أنه حقّ ما لم أتبيّن بالبداهة أنه كذلك.)
بمعنى أنه أي شيء يجب أن يحترم قاعدة البداهة، ولا يترك أي مجال لوضعه موضع الشك.
من خلال فلسفته هذه يدافع ديكارت عن المنهج العقلي بإعتباره المنهج الأسمى للوصول للحقيقة ويعتبر أن المعرفة الصادرة عن الحواس معرفة باطلة وجب التشكيك فيها وفحصها وعدم أخذها كحقيقة.
وفي هذا السياق يقول ديكارت: (الحواس تخدعنا من آنٍ لآخر، ومن الحكمة ألّا تثق تماماً فيما خدعك ولو مرة واحدة.)
هنا ديكارت نبه إلى ضرورة عدم التعامل مع المعرفة الصادرة عن الحواس على أنها معرفة يقينية، فهي تخدعنا عدة مرات ولا تقدم لنا الحقيقة كما هي، لهذا فعلى مَنْ يدعي أنه حكيماً أن لا يتعامل مع هذه المعارف الصادرة عن الحواس.
فعندما أرى السفينة من بعيد أقول على إنها صغيرة وساكنة، لكن عندما أعمل العقل وأدرس المسافة التي تبتعد بها السفينة عني، وكم السرعة التي تستطيع أن تتحرك بها السفينة، فإني أجزم على أن تلك السفينة كبيرة ومتحركة، على الرغم من أنني أراها صغيرة وساكنة من بعيد.
بالإضافة إلى ديكارت، وفي نفس السياق نستحظر الفيلسوف الإنجليزي “بيرتراند رسل” الذي يقول:
(إننا إذا ما أخذنا أي موضوع نألفه من ما نظن أننا نعرفه عن طريق الحواس مباشرة عنه ليس هو حقيقة هذا الشيء في ذاته مستقلاً عنا، بل واقعاً متعلقاً ببعض المعطيات الحسية التي تعتمد على العلاقات بيننا وبين ذلك الموضوع.)
وكمثال آخر، عندما أرى الشمس ساطعة فإنني أقول أن “الجو حار” وهذا حكم صادر عن إحساسي بالحرارة الصادرة عن الشمس، لكن أناس آخرين قد لايكون لهم نفس الإحساس، فالمريض بالحمى قد يشعر أن الجو بارد وليس حار.
هنا يتضح أن ما نعرفه عن طريق الحواس ليس هو حقيقة هذا الشيء في ذاته مستقلاً عنا، بل واقعاً متعلقاً ببعض المعطيات الحسية التي تعتمد على العلاقات بيننا وبين ذلك الموضوع.
وهكذا فإن ما نراه ونشعر به ليس إلا مظهراً نعتقد أنه إشارة إلى حقيقة تكمن خلفه، وفي هذه الحالة العقل وحده القادر على الوصول للمعرفة الحقيقية.
وفي الأخير، بعد البحث في موضوع مصدر مايمتلكه الإنسان من معارف، في مقالتي هذه نخلص إلى أنه الفلسفة الحذيثة كانت تعيش على إثر صراعٍ فكري بين التيارين التحريبي والعقلاني، وكل توجه له أساليبه المنطقية الخاصة التي يدافع بها عن أفكار.
و من الأشياء المميزة التي جعلتني أبحث في هذا الموضوع بكل شوق هو أنه على الرغم من هذا الصراع الفكري بين التيارين كان هناك اعتراف متبادل بين الطرفين معاً فكل فيلسوف في دفاعه عن تياره لا يقلل من قيمة الفيلسوف من التبار الآخر ويعتبره فيلسوف مثله أيضاً. وهنا سأختم مقالتي هذه بقولة رائعة للمفكر المرموق الغني عن التعريف “فؤاد زكريا” في مقدمته للكتاب الذي تَرْجَمَهُ ل”برتراند رسل” تحت عنوان “حكمة الغرب”: (ففي أشد أيام الخلاف بين العقليين والتجريبـيين في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كان كل فريق يهاجم الآخر ويسعى إلى تفنيده، ولكنه كان يعترف به… كان هناك إذن خلاف حاد، ولكنه كان يدور على أرض الفلسفة، وبين طرفين يسلم كل منهما بأن للآخر موقعاً داخل هذه الأرض.)
محمد الشقيف – مدينة القنيطرة
طالب باحث في جامعة ابن طفيل بالقنيطرة كلية العلوم الإنسانية والإجتماعية مسلك الفلسفة
اترك تعليقا