العراة ليسوا مكشوفين، العراة من ملأ الحي بصراخهم وآلامهم، مكلمون لا يتأففون إلا من ذواتهم، ناقمون على شقائهم، هم لا يملكون من الهوية سوى جسر الاسم، بل لا شيء ينتسبون إليه، هم تائهون بين اليوم والغد، لا يملكون من العفة إلا النتانة، كل همهم رسوخ بين أحشائهم وبين ما يملأها، لا أحد يعلم ما هم؟ لكنهم أشلاء محطمة، منكسرة، منعدمة ومنسية، ضاعت منذ الولادة، عفوا !! ليست هناك ولادة، فهم أصل من لا أصل له، هم جذمور في عدم مضمحل تارة، وعالق بين الأصوات تارة أخرى، وفي النهاية يحسبون المارة يعرفونهم بسخطهم وبسخائهم، هم عندهم ما جادت يدهم أو أفواههم.
المنعدمون في هذه الأرض كثر، فما بال هؤلاء الفلاسفة يشبعوننا كلاما حول الوجود، ونحن ما فتئنا نكون !!
لحظة، فقد سمعت السيد ديكارت يفكر في الوجود وقد حار، لكنه انتبه بعد تأمل طويل، خلص إلى أنه من يفكر هو موجود أو بمعنى أدق؛ أنا أفكر إذن أنا موجود، يا لغربة هذا العالم !! هناك من يفكر في الوجود، وهنا من لم يوجد بعد، بل حتى أنه لا يكاد يجد له منفذا، لكي يتنفس…
عفوا أيها السادة، فما كان لي أن أفكر وأنا لا أجد حذاء أو كسرة خبز، أعتذر منك يا ديكارت، فما كنت لأناشد التأمل وأنا لم أصر حتى حيوانا، بل لا أعرف لي مكانا ولا هوية ولا مأوى..
فكيف يفكر من هو لا هو، فلا نقطة ارتكاز يمكنها أن تعيد لي طبيعتي بين هذه الأشلاء المترامية، فهل كان التفكير ضروريا قبل ملأ البطن، قبل وجود الملاذ الدافئ، قبل استرجاع الهوية، قبل بداية التاريخ؟؟
لا أظن ذلك، لنبدأ من حيث نحن؛ فحتى الإله ما كان أن يوجد لولا الخبز، فحتى السماء ما كنا للنظر إليها قبل تأسيس المنزل وشرب الماء أو نزول المطر، فما كنت لأتساءل وأنا جائع، فما كان وجودي هذا وأنا لاشيء.
فكيف بات التفكير أساس الوجود، وكيف يكون الأنا موضوعا للذات وأنا لم أجد بعد متكأ هادئا؟
مهلا، فهل هؤلاء العراة عرفوا ديكارت؟ ليس بعد، لكنهم يعرفون بأن الطعام أساس استمرارهم، وأن الملابس تقيهم شر البرد والشتاء، يعرفون بأنهم وجدوا، ليستمروا كيف ما اتفق..
كل شيء تم، بوجودهم أو بعدمهم..
لكن لا أعرف كيف خبروا استجداء الناس؟ واستمالة عطفهم؟
الله، لكن عن أي إله يتكلمون؟ إنه الإله الذي يعطي الخبز والماء، إنه إله أسباب الحياة، يا لعجب هؤلاء يفقهون جيدا معنى الإله !! إنه النافع الذي يزكي الحياة باستمرار، في الجوع والعطش والمرض أيضا، هم لا يعرفون معنى العلم ولا درسوا ديكارت، ولا اهتموا بشيء سوى الله.
الله.. نعم إنها آهات المكلمين ولغة الضعفاء تماما، من يأسوا، ولا علم لهم، هم يصرخون أمام المساجد، عند كل قارعة طريق، الدعوات كنز يتقنونه ويعرفون كل فنونه، حالهم صورة ظاهرة تجلب الحظ لصاحبها أو نقمة المتصدق.
من يعطي يستعبد، اليد العليا تستعبد دائما، فعزيز النفس ينفر من العطاء، لأنه استعباد ومكر ودهاء، فهو يفرغك مما تكونه في الأساس، وإن لم تكن في الأساس إلا صورة باهتة الملامح، غافيا لتجد لك صوتا ووقعا وأثرا تقتفيه، لكن الكل منذ أن قلنا البداية، صار سؤالا بلا جواب، وهذا السؤال الجاثم على عاتق ما يصطلح عليه بالإنسان، فهو العامل والفنان والخير والشرير، والحي والميت، والنائم والمستيقظ… ألسنا سوى هذه الحركات بين مد وجزر وبين عشية وضحاها، بين بين، عدم ووجود، هناك وجوهنا نحن..
ملأنا العالم عويلا ورنينا، لنعدم الوجود ونلبسه أحرفا وكلمات، أما قال هايدجر إن اللغة مسكن الوجود؟ أوليس العدم أيضا مسكن الوجود، مادامت اللغة صراخنا وموسيقانا؟ فكل ما يوجد، يوجد لينعدم بالصراخ والصمت، وتختفي الكلمات في فيزياء العالم، لتشكل صورا وأزهارا وحيوات ..
نعم اللغة لباس الوجود، فهي تعبيراته الخاصة، لكي تقول أنا، وبعدها اللاشيء، الكلمات قوالبنا الوجودية، نستجدي الاستمرار في الغائب، نسكن بين فعل وفاعل ومفعول به، بين حاضر وغائب، لتبقى الضمائر حية فينا، وفيما بقيا، وسيبقى..
تمة ظلمة حالكة بين جنبات الكلمات، الثابت فيها، نحو متمنطق، ليعلم اللاحقون منا؛ كم عمرنا؟ وكم خربنا؟ ليتعلموا من هفواتنا؟
نعم نحن الساكنون بين حفر اللغة، أكانت اللغة لغتنا، أم لغة الكون، أم لغة الأشياء، أم لغة اللاشيء..
كم كان شقاء أن نتعلم الكلمات، لماذا؟ لنقول كلاما، لنصبح كلاما، لنغدو سرابا عابرا في الذاكرة…
نحن من يسكن هذه الديار، ونحن من رصد هندسة العالم، عاجزون أمام فهمنا.
لكم يمكر بنا هذا الوجود !! لكم نزيف الولادة والتاريخ والهوية، لأننا أصبحنا في الوجود، نفعل، نتكلم، نرسم، نملك، نلتزم، ونماهي كل ما هو باستطاعتنا !!
كلها تسميات، لكن المعايير منا ولنا، فهذا عامل، وهذا خامل، وذاك موظف، وآخر متسول…
نحن إذن، سكر بين عدم ووجود، نعم وجوه وأغلفة، وكهوف متوالية، ينتح بعضها من بعض، لنرسخ فينا الإنسانية، لنكون بين ثناياها وفوالقها المتأهبة تارة، والخاملة فينا أخرى.
محمد الإدريسي – مدينة بني ملال.
اترك تعليقا