محمد الإدريسي يكتب: بين ألم وموت

18 أبريل 2020

تسير جثت هنا وهنالك شاخصة إلى السماء، رافعة أكف الرحمة، تترقب نظرة المخلص الواحد المرفق بعباده، ضراعة وشفقة، لعله ينظر إليها، ولو مرة واحدة في حياتها، من هنا بدأ التيه، من عالم مفقود الحلقات، كله تراجيديا ومأساة الحياة، الأشياء ترجو من اللاشيء، تخاطب في الفراغ، في الفضاء اللاشيء..

أيها المنادي فينا انتظر ساعة ولا تقف متعجلا، فإن الوصول ههنا، فلا شفقة إلا على الذين لا يتحملون شقاء الحياة، ولا رجاء إلا من الضعاف إلى الضعف، الصرخات تلوى الصرخات.. فاكتموا أنفاسكم الأخيرة، وانظروا بحالكم وانتظروا عودة القطار، فكلنا مسافرون، لنكون وقود الحياة الجديدة، المعتقة منذ الأزل، أنظروا إلى هذه الجثث النتنة. إنها تنتفخ وتتفسخ، لتنجلي في كل شيء، لكي تكون صالحة الاستعمال ولتلبسها جثت أخرى، نبدل جلودا تلوى الجلود حتى ينتشي النقص فينا، عالم مليء بالجلود والعاهات القديمة..

 أو ما تعلمون أن لكم جلودا من جلود ما انحل في الأرض من كل شيء، وما تعتق في جوف هذه الأرض.. أو ما تعلمون أن لكل شيء ثمن؟ فكم تبيعونني جلودكم ورائحتها؟!!

 لا..لا أنتم تتعبون بسرعة، تخلصوا من جلودكم لتفترشونها قبل أن تفترشكم…

آه، كم هي متعبة هذه الحياة!! تعب كله الجسد، نظفه وأصلح عطبه في كل ساعة وحين؛ يعطش.. يحتاج إلى أكل ولباس ومسكن ومدفن وووو..

شقاء كلها الجسد وكلفته النفس التي لا تريد سوى أن تتمنطق به، كم كنت أسعى إلى انتقام منه !!كم يكلفنا هذا الجسد !! كم يحتاج إلى مصاريف وأدوية، أما كان لنا أن نكون إلا على هذه الحال؟ أما نجد لنا إلا تكاليف بدون راحة البال؟

 وهل استطاع الصوفي الزاهد أن يتخلص من شقوة الجسد أم أنه يحمله من الأتربة ما يقبله ومن شظف الحياة ما يواريه؟ لعبة تمكر بنا، كم نحن متعبون لذواتنا وللعالم؟!! نحن مملون جدا، نقوم بكل هذه الأشياء، لأننا نعتقد بأننا نحب الحياة، فهل محبة الحياة ترتبط بنظافة الجسد والاعتناء بالمأكولات والمشروبات؟

نحن في ألم دائم، يسكننا هذا النقص العارم، الأمراض منذ الولادة، لكننا لا نقبل بهذا القدر، فنحن نعتبر أنفسنا فوق كل شيء، نحن ألهة الأرض والسماء.. الأرض التي جعلناها مليئة بالثقوب، كشفنا باطنها حرثنا أرضها خربنا كل شيء بحثا عن اللاشيء، والسماء لم تسعنا قبتها، فحاصرن فضاءها بكثرة الأقمار الاصطناعية، لماذا ذلك؟ لنمارس مهنة الإله التي لطالما اعتنقناها ولازلنا؛ أن الإله يراقبنا من فوق يمدنا بالمعرفة عن طريق الوحي، فنحن الآن من نمارس هذا الدور وغيره من الأدوار..

 فرغم ما قدمه العلم من كشوفات وإبداعات الإنسان في هذا العالم، نأبى إلا أن نحاصر كل شيء، أن نصل المطلق الذي كان ملهمنا والبعيد-القريب عنا، نحلم ونأمل ونسعى إلى اللاشيء، لعله جنون اسمه الإنسان.

لكن، لماذا هناك ألم؟ لماذا هنا تعاسة؟ لماذا لماذا؟

لا شيء سوى أننا لا نحب سوى الأفضل، فما كل هذا؟

من شدة ألمنا حسبنا كل شيء يتألم، حسبنا السماء تتألم لحالنا. الأرض والنجوم وكل شيء هو ما نحن. نحن في كذب وبطلان، نحن بقايا ما انعدم. ونحسب أننا كل شيء.

العلماء يحسبون كل شيء إلا أنفسهم، يتميزون ويختلفون، يقسمون كل ظاهرة ويختزلونها، وربما يكذبون وربما هم أيضا لا يعرفون أي شيء، لكنهم يعتبرون أنفسهم يفهمون كل شيء، لهذا حذرنا سقراط من هذه المعرفة واعتبر نفسه الغبي- الذكي، الذي يعرف بأنه لا يعرف، فختم حياته بتجربة الألم وهي تجربتنا الأخيرة مع الموت، السم وهو يسري في دمه يخترق كل عضو كل جزء منه، إنها تجربتنا المأساوية. لكنه ألم حكيم بدأ بتجربة تسعى إلى كشف الجهل، وانتهى بأعقد التجارب وهي الألم والموت، فتجربته نصف ظاهر، وأخر سر ذهب مع صاحبه، وفي النصف الأخير تنشط الذاكرة، لأنها تتفقد كل جزء، من الخارج إلى الداخل، لكي تصل إلى أقصى نقطة حالكة في الذات ، ويغيب الوعي في أرقى كمالاته. وتنتهي التجربة في التراب.

محمد الإدريسي – مدينة بني ملال

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :