ليس لسيلِ الخواطر، أو لأبطالِ القصص التي في مُخيلتي ميقاتٌ مُحدد، لكنهم غالبًا ما يُباغتونني وأنا في المطبخِ، وأنا أقرأ.. وأنا في الشارع.. وأنا أتابعُ حوارًا ما.. حتى يكادُ يُخيّلُ أحيانا للذي يقف أمامي أنني لا أهتمُ لحديثه، بينما أنا في واقع الحالِ، وعلى العكس تمامًا، مهتمةٌ جدا، بكل التفاصيل الصغيرة والتافهة التي تصدر عنه والتي تُسجل بذاكرتي، إذ كثيرا ما أجده مرشحًا مميزًا لأحدى حكايات قصصي ..
لا أنكرُ أنني أشعر في العديد من المناسبات، وكأنني أليس في بلاد العجائب، كثيرة الخيال، دائمة الأحلام..
تلك الأحلامُ التي على ما يبدو باغتتني مجددا وأنا عند طبيب الأسنان.. حضورٌ غريبٌ للأفكارِ، في مكان ترتعدُ عادة فيه الفرائصُ، لكنني وجدتُ أن حضورها الغير المتوقع ذاك، كان مُجديًا جدًّا لي، إذ أنه ساعدني إلى حدٍّ كبير على تشتيتِ انتباهي، والتغلب على ذلك الرهاب اللاإرادي الذي ينتابُني، حساسيةُ روحي من رائحة الدواء.. وإبر البنج، ومن صوت آلة الزين زين.. ذلك الأخطبوط المُفزع الذي ينخر أسنانك بأذرعه الحديدية.. لطالما رأيته كذلك وهو يتصارع في قعر المحيطِ، يواجهه الكابتن نيمو، والذي يُعرف أيضًا باسم الأمير دكار، تلك الشخصية الخيالية التي ابتكرها الفرنسي مؤلف الخيال العلمي جول فيرن في إحدى روايته؛ عشرون ألف فرسخ تحت الماء.. أوفي روايته الأخرى الجزيرة الغامضة.. فأنا لم أعد أذكر..
أغلقتُ عيونِي كي تنتظمَ أنفاسي، ثم تذكرتُ ما دار في قاعة الإنتظارِ منذ وهلة، حيث كانت الطفلةُ الصغيرة ذاتُ الثماني سنوات، واقفة تُحدق بإمعان في حوض الأسماك الجميل، الذي يتوسطها، كانت شاردة تُردد بعض الأسماء، فعلمت الأم أنها تطلقها على الأسماك اللطيفة التي تسبحُ بأريحية داخلهُ ، ثم بغتة التفتتِ الصّبِية إلى أمها وقالت بفرحٍ عجيب، ” لا وجودَ لنيمو بينهم!”
فسألتها الأم بحيرة وهي تُمعن النظر بدورها داخل الحوض الذي على ما يبدو لا توجد به سمكةٌ برتقاليةٌ مخططةٌ بالأبيض ، تلك السمكة نيمو ..السمكةُ الشهيرةُ في فيلم الكارتون..(البحث عن نيمو )
فهتفت الأم بدورها؛ ” هذا صحيح لا وجود لها!”
ابتسمت الطفلة مُطمئنة أمها وهي تردف بثقة و رزانة، وكأنها تُربتُ على رُوحها القلقة ، لعلها تَمنحها بذلك طاقةً إضافية مليئةً بالشجاعةِ لمواجهةِ جلسة الحشو الجديدة ، فهي تعلمُ مدى جُبْنِ والدتها.
“لا تقلقي يا أمي واهدئي ..فيبدو أن هذا الطبيب لطيفٌ جدًّا..!”
“وكيف عرفتِ؟”
“لأنه أولاً لا يحبسُ نيمو هنا.. فهو لن يُقدمها هديةً إلى أحدهم.. وهو يعلمُ أنها سمكةٌ صغيرةٌ شجاعة ..ظلَّت الطريق عن والدها.. وتأبى إلا العودة إليه في أعماق المحيط.. ولذا فأنا أجزمُ أنه طبيبٌ لطيف..!”
ابتسمت لها..
وأنا بدوري ابتسمتُ، وأنا أجزمُ بأن الطبيب لن يعرفَ أنني ألَّفْتُ هذهِ القصة وأنا مُغمضة العينان في جلسةِ الحشو.. يبدو في النهاية أن للخيالِ فائدةٌ عظيمةٌ لمن هم مثلي؛ يعانون هذا الرهاب..
اترك تعليقا