كان الجو مشحونا بالقسوة ومليئا بالخوف يومها وكانت أعيننا نحن تلاميذ الصف الثاني ابتدائي، شاخصة تملأها الرهبة، قام كل واحد منا بإخراج أدواته المدرسية من محفظته الصغيرة بأيد مرتجفة مخافة نسيان لوحة الإردواز. خطت الأستاذة عزيزة بضع خطوات لتتفحصنا واحدا تلو الأخر، كانت في كل مرة تنهال على أنامل تلميذ منا بالضرب، مع تذكيره بصوتها الغاضب، بعدم نسيان اللوحة في المرة القادمة. كنت أرتعش من الخوف لكوني نسيتها أنا أيضا وكنت أنظر إلى الوجوه الباكية للتلاميذ متسائلة متى سيأتي دوري ؟ كان الأساتذة الكرام في مدرستنا التي كانت ذا سمعة طيبة و بقيادة مديرنا شرشبيل، –هذا ليس اسمه الحقيقي إنما الاسم الذي اخترناه له – يتفننون في ابتكار طرق مخيفة ومؤلمة للمعاقبة ،فتارة ينتفخ ظهر أيدينا من اثر الضرب وتارة أخرى تظهر بوضوح خطوط راحتها بلون احمر داكن ، ناهيك عن الألم الفظيع، الذي نحسه حين تجمع أصابعنا لتلتقي في نقطة واحدة لتشكل مثلثا و لتكسر بعد ذلك بضربة قاضية من عصا الأستاذ…
كانت كل تلك الصور الفضيعة تدور في خلدي وأنا أبصر خلسة الخطا الثابتة و القادمة باتجاهي ،كانت دموعي على وشك السقوط من شدة الخوف وأنا انظر إلى وجه المعلمة الصارم، وهي تتجه نحونا أنا وزميلي في الطاولة،بنظرة سريعة فطنت إلى وجود لوحة اردواز واحدة ، أشحت بوجهي كي لا ترى الرعب البادي على وجهي و تكتشف أني من نسيتها ،كنت أهم بالبكاء، إلا أني رأيت يدا صغيرة بعثت في نفسي الأمل وهي تمد لي اللوحة. ترددت في أخدها، لكن نفسي الخائفة غلبت نفسي العطوف، اخدتها وأنا انظرالى تلك العيون البريئة بجانبي والتي بدت لي في تلك اللحظة، كقمر مضيء في ليل موحش ،ثم سمعته يهمس لي :
–خدي لوحتي ،لا تخافي لن ادعها تعاقبك.
كانت هذه الكلمات التي نطق بها بسرعة، قبل اقتراب الأستاذة عزيزة من طاولتنا،شعرت بالامتنان لذلك الطفل الأشقر الجالس بجانبي ،لا ادري إن كانت الاستادة قد رأته وهو يعطيني لوحته ،كان همي الوحيد في تلك اللحظة كطفلة صغيرة آن لا أعاقب ،أن لا أحس بطعم العصا وهي تلسع يدي وتنخر أصابعي…ثم بصمت ممزوج بشيء من الخجل، اخدت اللوحة والطفل الأشقر أكل العصا.
كنت طفلة أنانية يومها لم أفكر إلا بنفسي،حتى أني نسيت أن اشكره يومها، وكلما تذكرته تساءلت،عن السبب الذي جعله يفعل ذلك ؟أعجبتني فكرة انه ربما كان معجبا بي، بالرغم من سنه الصغيرة ،ترى كيف يبدو الآن بعد مرور ثلاثة وعشرين سنة ؟هل مازال يحتفظ برجولته وشهامته في زماننا هذا الذي غابت عنه الرجولة والشهامة؟حتى أني لا أتذكر اسمه …ورغم ذلك قررت أن اهدي له هذه الكلمات تكفيرا عن ذنبي الصغير،ولواني اعرف تمام المعرفة انه ربما لن يقرأها يوما.
إلى الفتى الأشقر الجميل بعمر ألثمان سنوات والذي كان جالسا بقربي ولم انتبه له…
إلى الفتى الأشقر الجميل الذي رغم سنه الصغيرة استطاع أن يجسد الرجولة في سن الطفولة
إلى الفتى ذو العينين البراقتين بالدموع حين احتملت أنامله الصغيرة الألم بدلا مني
إليك أيها الأشقر الجميل أوجه اعتذاري وابعث سلامي وحبي ،واكتب هذه الكلمات تعبيرا عن امتنان وشكر من طفلة صغيرة ، كانت ترتعش يوما،خوفا من المعلمة، لأنها نسيت لوحة الارذواز…
.
.
لطيفة محفوظ كامل – مدينة الدارالبيضاء
اترك تعليقا