لقد كان العام الماضي سجلا مليئا بالجنائز كغيره من الأعوام، نشاهد فيه الموت يخطف العدو والصديق والظالم والمظلوم، بل ويتربص بالضعيف مثل القوي واليتيم والمقهور والعالم والفيلسوف، فلا يميز بين الطفل والعجوز وبين النبيل والوضيع وبين المرأة والرجل ولا بين الحيوان والنبات، إذ يقال إن الإنسان محكوم بالموت ومقيد بالحياة، ولأننا لم نزرع حبل الموت في ذاتنا أو في طريقنا، نخشاه كما نخشى على أنفسنا أو أكثر، ولهذا كله يكون الموت بمثابة منطقة عبور إلى ما وراء الموت. هذا الكلام لا يقال لمجرد أن الموت شيء عادي وحاجة طبيعية، وإنما لأن هذا التعريف صار تقليدا، ففي كل النقاشات العامة والحوارات الخاصة، نسمع مثل هذا التعريف البسيط والمألوف ونؤمن به أو لا نؤمن به، أي التعريف.
بعد عودتي الأخيرة من مدينة مراكش الحمراء، المدينة المغربية المغرية، التقيت بصديق قديم، ضلع في الفلسفة والتفلسف، وما أن التقيت عيناه بعيناي حتى بدأنا الحديث معا عن فلسفة الموت وعن كيف يغادر الواحد منا دون عودة؟ وكيف تحلق الأرواح في السماء دون أن تعود؟ وكيف يعود الإنسان إلى العدم المعلن؟ وهل الموت شيء أم حاجة؟.
قبل أن أصرح بما أسفر عنه حديثنا من نتائج وخلاصات، وآخذ بالكتابة إلى صلب الموضوع، لا بأس إن وقفت وقفة إهدائية لإنسان طيب غادرنا إلى حيث اللاعودة، أقول: ” للذي قطع مسافة قصيرة في الحياة، ثم تسلل إلى العدم من باب اللاعودة، وانعطف مع أولى المنعطفات التراجيدية، وانتقل من الزمان المرسوم إلى الزمان النهائي .. فما أطيبك ونبلك يا رفيقي ” محماد الهلالي” .. واسمك لن يمحى على الأرض، فستبقى ذكراه راسخة وإلى الأبد”
لماذا الموت؟ وهل للموت تاريخ؟ .. هذان السؤالان، بالإضافة إلى الأسئلة التي تمت الإشارة إليها سابقا، كانيا منطلق حوارنا مع صديقنا القديم، وقد تثير هذه الأسئلة اشمئزاز أي دارس ومحب للحياة وتدفع به إلى التوغل بحثاً وتحليلا، بل وقد تزج به إلى ما يمكن أن أسميه هنا ب: ” الفراغ المفهومي”.
وتعليقا على الحوار البسيط الذي جمعني بصديق قديم، أقول: أريد أن أضم أسئلتي إلى ذلك السيل من الأسئلة التي طرحناها سابقا .. ولا أريد حوارا على شاكلة الأنماط العادية ( الموت مصيبة/ الموت خطيئة/ الموت لعنة ) .. أريد حوارا ليس كلاسيكيا وإنما من نوع آخر، بما فيه من الخروج عن المألوف والتفكير في اللامفكر، والتجاوز المستهلك.
وعلى هذا، فإن الصفتين الأساسيتين للموت هما: العدالة الإلهية من ناحية، والخوف الإنساني من ناحية أخرى. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه: على ماذا ارتكز التفكير أو الخوف الإنساني من الموت؟ هل الخوف من الموت نفسه أم من قيمة الروح التي تغادر- ولا تعود – إلى حيث غادرت، من حيث المكان والزمان؟
وأنا أفتش بين أوراقي القديمة وكتاباتي السابقة عن الموت، لمحت مصادفة تعريفا لا مألوفا عن الموت، والذي أثارني بشكل كبير وأنا أقرأه بنظرة مختلفة وبمفاهيم جديدة، وبالضبط في زمن كورونا، فقد جاء في تعريفي هذا، أن الموت: رحمة إلهية، ونعمة إلهية، وحياة بعد حياة، واستنشاق لما وراء العالم، وحقيقة كل كائن، واستطلاع الأول والأخير للحياة المطلقة، وهذه هي باختصار تعريفاتنا للموت، وهي كلها تعريفات تدور في مجتمع فان أو في عالم قابل للنفي وللنقد، فربما كانت مشكلة بعض التعريفات أنها لا تتحرك في الجانب الفكري لتبحث في العمق وفي الأفق الامتدادي الإنساني، بل انها تقتصر على الموروث وتكتفي بالموت كفقدان للروح وتوقف القلب عن النبض.
وبذلك، فإننا عندما نطرح معادلة الموت لا نجد إلا تنظيرا للعديد من الاتجاهات السابقة ولا سيما الاتجاهات الدينية، ليغلب على المسألة الفكر الديني لا الفكر الفلسفي، وهذا في الأفق العام، أما إذا أردنا أن ننطلق من منطلقنا، فيمكن القول أن تجربة الموت كقاعدة مخفية ووجودية تنطبق على كل كائن حي، تستحق أن يكشف الإنسان جانبها الجميل وإن كانت قاسية جدا وذات سلبية مطلقة لدى العامة. ومن وجهة نظري الرياضية؛ وإن كنت غير دارس لهذا المجال الخصب، فلكل معادلة رياضية حل أو حلين وأكثر وقد لا نجد لها حلا، ونفس الشيء ينطبق عن الموت، فهو معادلة ليس لها حل، وبالخاصة إذا ما اعتبرنا الموت الخط الحاسم والمرحلة النهائية لأي كائن حي يتنفس، قادر على العيش والتعايش.
إن البحث في الموت يوازيه البحت في الحياة، والسعي لاكتشاف الحياة يقابله فقدان الأحبة، فكثير ما نربط الحياة أو الموت بالألم وبالمعاناة، فالولادة والموت والمرض والحزن كلها مصدر للآلام، وللموت أسباب كما للحياة أسباب، كما أن البحث في الموت هو انتصار للحياة، ومحاكمة كل أغاليط الإنسان. فضلا عن أنه كما قلنا، لا يمكن الموازنة بين الموت والحياة التي نعيشها الآن والتي سنعيشها بعد الموت.
فإذا اعتمدنا، – برأي البعض-، التعريف المطلق للموت، يصبح عدد الأحياء قليلا جدا، إذ تخلوا عندها كون الموت رحمة ونعمة وتطبيقا للعدالة الإلهية، كما تفتقد الإنسانية لما هو في الحقيقة موضوع زاخر، لابد من السعي وراءه قصد بلوغ المغزى الأخير له.
وتبقى كلمة أخيرة نقولها، وهي: الموت مشيئة الله، يرحم بها عباده أجمعين .. ولهذا كله فماذا بوسعنا أن نقول عن الموت ونحن متأكدين أننا سنموت، وننزل إلى القبر بشكل مؤقت؟ ثم إننا لو سلمنا فرضا بأن الموت حاجة ضرورية تخص ما وراء حياة( البرزخ)، فهذا لا يمنع دراسته والنظر فيه، لا سيما وأنه أقرب إلينا من حبل الوريد.
لحسن وحي – مدينة زاكورة
كاتب مغربي وباحث في الفلسفة.
اترك تعليقا