من قرية بدوية يكتب لكم هذا الإنسان، يكتب ما لا يمكن أن يكتب في زمن تشابكت حوله القراءات والتأويلات، وهذا كله لا يمكن أن يكون إلا استخفافا بالدرس الكوروني للأخلاق وبقيمة الإنسان، وتنبها لما يفعله الإنسان بنفسه، فكورونا إلى حد الآن ليست ثمة حدود تحكمه أو يد تخمد نيران نظامه القاسي والصارم، فهو بشكل أدق يرفض حدود الزمان والمكان، بل ويسعى لتجاوزهما إلى ما هو وظيفي كي يضمن كمالية القيادة لنفسه، جاعلا العالم يسير بخطاه نحو عالم مأساوي متناغم، تعلو سماؤه العبارة التالية: ” لكل يوم حصة وحصيلة بشرية تموت وتدفن ببرودة”
إن الميل الشديد نحو تطعيم الزمان بأحداث مفبركة، يجعل من الحدث نفسه ملتقى بين ما هو واقعي مادي بوصفه موضوع صراع وبين ما هو معنوي اعتباري بوصفه صورة تُوضع عليه قيم وأخلاق الإنسان، غير أن كورونا لا ينطوي في حدوده الزمكانية على أية حدود إنسانية بل يتعدى نفسه ليصبح نقطة تحول ومحور حديث، يكون فيهما الاقتصاد أهم من السياسة إن لم نقول أهم من الفكر نفسه، ويكون المال أهم من الإنسان والاختباء أهم من التعايش، وتصبح العزلة والعزل المفر الوحيد ويصبح الحجر الصحي مسلك نجاة من الموت.
ومن ناحية أخرى، قد يكون كورونا صيغة جديدة لممارسة سلطة معنوية أو وسيلة لإسكات شجاعة الرجل الأصفر، ففي كل حال من الأحوال تكون السياسة صانعة للحروب ويكون الاقتصاد السيد الحاكم ويكون الفكر المعول المنقذ والمفسر لكلاهما. إذن فغاية كورونا بوصفه مجالا متدبدب الآراء وموضوعا مسيطرا على الأذهان قبل الأقلام، تصبح غايته، نفس الغاية التي وضع بها في محك التاريخ دون أي شيء آخر، السيطرة والهيمنة وفرض الوجود.
فضلا عن هذا كله، إن السمات المختلفة التي كونها لنا هذا الحدث المفتعل، تدفعنا اليوم إلى قيام تصور جديد للإنسان وإعادة النظر في القيمة التي يحظى بها داخل عالمه، على الصعيد الابستمولوجي والانطولوجي، وكذا إقامة مفهوم جديد للحرب بحساسية جديدة وبطقوس بعيدة كل البعد عن الإنسان كإنسان، وفي ظل هذه التجديدات سيسير المجتمع العالمي خطوة بخطوة نحو ما بعد العولمة وما بعد التكنولوجيا، منعزلا عن المشترك الموحد بين الجميع، دون أن يكون الإنسان الشخص نفسه ” أي كل إنسان سفير نفسه، في عزلته، في عالمه، في حجره”.
وربما تكون سياسة كورونا، دعوة جديدة لتحقيق انقسامات عالمية، ففي جوهره الكثير والكثير من الغموض إذا ما اعتبرناه الحدث الذي لن يستمر طويلا، لكنه يبدو رفضا مؤقتا لسياسات العالمية السائدة، غير أن مجراه يفرض علينا ” نحن” أن نتساءل سؤالا قد يبدو فيه نوع من العودة إلى النقطة الأهم في الحدث: هل يمكننا إدراك بدايات هذا المسمى كورونا، وكشف المنخرطين الحقيقين فيه؟
إن ما يُعتبر معقولا في التأويلات والآراء المأخوذة عن حدث كورونا اليوم، هو مدى تنظيرها لمجتمع جديد قائم على روح جديدة، روح تمس الإنسان في بعده الأخلاقي والتاريخي والمادي. إلا أن هناك دائما فكرة علقة تتحجب بستار كورونا وتتأمر تحت لواء الحكم الموروث وتتخفى وراء خلفية إيديولوجية محضة. فقد تكون نتائج هذه لأزمة المفتعلة في نطاق الفلسفة وفي نطاق الفكر عامة، مجالا لتضارب التأويلات والقراءات. لكن كان من شأن هذه التأويلات والقراءات أن تكون صائبة لو أن الرأسمالية الفكرية توقفت عن ممارستها الأنانية بسياساتها الموغلة في الإيديولوجيا، وبالتالي فليس من المبالغة القول: أن كورونا كحدث ما كان ليكون لولا رغبة الإنسان في السيطرة على الإنسان وتمهيد الطريق نحو عالم آخر، عالم لا يمكن أن يكون إلا عن طريق الموت، الذي فرض هو الآخر على القسم الأكبر من شعوب العالم.
جل هذا بلا ريب، ينصب ضمن الحدود التي ينبغي ألا يتجاوز كلا من الرجل الأصفر وصانع/مفتعل الحدث، في حين قد يكون من العبث الدفاع عن استنتاج تأويلي سابق للحدث، والحكم على حدث لم يكتمل بعد، فالمعطى التقليدي يبقى في صورته الخاصة – كورونا وباء أو لعنة إله أو سياسة مخدومة أو حرب بيولوجية...– إلا أنه يبقى في صورته الأولى ممزوجا بالعزل وبالصراع لفرض الهيمنة.
هكذا نفهم إذن أن كورونا حالة ذهنية، تسيطر بالكامل على الفكر والمعرفة والآداب والفنون والفلسفة والدين، حالة قد تتعدى حدود ما نحن عليه اليوم، لنسميها مستقبلا الوسيلة التطهيرية للإنسان بطريقة هادئة متماسكة وزرع مخاوف جديدة فيه، تقلق وجوده البشري برمته، وبدلا عن هذا وذاك، يكون تعميم عقوبة الموت (ذهنياً/جسدياً) على الإنسان في جميع أنحاء العالم وخلق وسوسة مرضية فيه بمثابة صنع وتفعيل لما يمكن أن نسميه اليوم بالموت الجماعي غير مبرر/ بالموت الجماعي المفبرك/ بالموت الجماعي المصطنع/ بالموت الجماعي الواهمي الافتراضي.
وفي الختام فعلينا محاولة فهم حدث كورونا في أبعاده القصوى، وكذا التطاول قدر الإمكان على الخلفية التي بُني عليها ولا زالت تحتفظ به كفيروس لا كحدث مصطنع/مفتعل. دون أن ننسى في الأخير الإشارة إلى الرجل الأصفر، فبسقوطه يكون العالم قد انتقل برمته، إلى عالم رابع أو ما قد أطلق عليه ب: ” عالم الاستثمارات، الذي لا يقول بل يفعل“.
واستحضارا لما سلف الذكر، نخلص إلى ما يلي:
كورونا إدانة للجماهير.
كورونا كموضوع الأمن والحدود.
كورونا في مجال الآداب كملحمة حقيقية تكرر نفس القصة ونفس القصيدة.
كورونا يتيح للدول العظمى حرية اختيار نظام جديد للعالم.
كورونا تبرير للخطاب الفوضوي في الاقتصاد.
كورونا حصار لإحياء الدائرة الشيطانية في الفكر.
كورونا سياسة جديدة لتكثيف الأيادي وعزل الإنسان.
كورونا سلطة غير مرئية لتعذيب البشر ببطيء سيكولوجيا.
كورونا حدث يسعى لتبديل طبيعة العلاقات بين دول العالم تبديلا كبيرا.
كورونا فلسفة تحمل سمات لأوجه إيديولوجية متعددة.
كورونا معضلة ومهمة قانونية مهيأة لها تاريخيا.
كورونا المقياس النظري والتطبيقي لقياس الترابط والتفكيك والتماسك الاجتماعي.
كورونا مجرد فيروس ووباء قاتل.
كورونا مسألة مركبة لا تزال موضوع أخذ ورد وتنظير.
وهو في الحقيقة حصار على العالم كله، يمارس بطريقة مباشرة وغير مباشرة، كما أن هذا الكم الهائل من التأويلات والقراءات على ما فيها من كشف عن اللامفكر فيه وأشياء تفوق التصور المألوف العادي، فإنها لا تخلو من التعقيدات التي لا يمكن تخطيها وبلوغ حقيقتها، ففي حلقة الحدث شيء ناقص وربما حذف.
وعلى أية حال، ستكون هذه التأويلات والقراءات متخذة عن كورونا كغيرها من التأويلات والقراءات، بل سوف تنضاف إلى من هم مثلي أو كثر مني أو أقل مني بكثير، وأيا يكن الأمر لن يظل الحال هكذا، فحتما يمكن القول أن كورونا حدث أجله محدود، وأقصى ما يمكن بلوغه من نتائج هو الاتفاق على هذا الحدث وحسمه في المدى القريب من طرف من هم منخرطين فيه بكل بسالة وتفنن .. وخلاصة الإنسان البدوي؛ الأمر لن يفوق ما يبدو عليه اليوم، بل وستسقط الشروط المسبقة عنه، ويصير كغيره من الخرافات والأكاذيب، أو وباء يقتل ذهن وفكر الإنسان قبل أن يتسرب إلى جسمه بالكامل، وعلى الأقل فما يثير التساؤل في هذا الوضع: ما إذا كان كورونا حدثا يستوفي نضجه من ذاته ومن المنخرطين فيه ويستقي جذوره من أرض خصبة تطمح لتغير العالم، إلى الأفضل أو إلى الأسوأ؟
لحسن وحي – مدينة زاكورة
اترك تعليقا