لا غرو في كون القصيدة المغربية عرفت إنعطافات تجديدية سواء على مستوى بنية النص الشعري أو المضموني، حيث لم يعد الشعر تجسيدا محاكاتيا وذي بنية عروضية تقليدية وذلك راجع بالأساس للتضايف العميق مع الشعريات المشرقية،ماحتم على شاعرنا المغربي نحت صوته الإبداعي الخاص. بذلك وضعت القصيدة المغربية قطيعة مع التيار الكلاسيكي وكذا الرومانسي وتأثرت بالشعر الحر .فخرج للوجود شعر تفعيلة كسر حدود البيت الشعري وكذا البحر،وأضحى يسمى شعر معاصر بعدما تخبط في تسميات من قبيل الشعر الحديث-الجديد. وانتقل لنا من جيل لآخر ليعطينا زخما شعريا مختلفا ومتنوعا
وكان للرواد المغاربة دور هام في إخراجه للوجود من قبيل كل من محمد بنيس ،السرغيني،عبد الكريم الطبالوالحمدوشي والخمار وتطول اللائحة
كما يعد أحمد المجاطي من أبرز الرواد المغاربة الذين ساهموا في إرساء معالم القصيدة المعاصرة وحمل عبأها على كاهله وللتأكد.من ذلك سنحاول تحليل قصيدته : دار لقمان تحليلا أدبيا ونسبر أغوارها ونربطها بالواقع المعالج .
من خلال الرؤية البصرية الأولى يتضح جليا أن هذا النص الماثل أمامنا نص مبني على نظام التفعيلة وليس البحر الشعري والسطر الشعري مكان البيت الشعري . فالأسطر الشعرية متفواتة الطول فهي تطول تارة وتقصر تارة أخرى حسب الدفقة الشعورية للشاعر ، كما نرى تعدد القوافي فالقصيدة لم تبنى على قافية واحدة فنجد.قافية / أشعار-أحجار
القبور-الموتور
ستارا -أنهارا
المدينة-السكينة
وبتنوع القافية تنوع الراوي أيضا وعوض ذلك باستعمال كلمات لها نفس الجرس الموسيقي ليعطي حيوية للنص فتارة تنتهي بحرف مجهور -راء -باء وتارة بحرف مهموس كالتاء مثلا .
أما على المستوى التركيبي فالنص يزخر بجملة فعلية وأخرى إسمية مما يمنحنا إيحاءا بثراء البنية التركيبية للنص , فالجمل الاسمية هنا تلعب وظيفة الإخبار ويلزم بذكر تفاصيل بعينها كوصف دار لقمان
حين يقول : يا دار لقمان – موائد الإفطار فيك والردى.
لكن الجمل الفعلية تنقلنا من جمودية الوصف لحركية الذات و تقلباتها إزاء هذه الدار وواقعها لتعطي امتدادا في الزمن ( بات في دمي _يحصد بالظلمة-انسل خلف لحيتي)
ويتجلى ذلك كذلك.من خلال استعمال أساليب إنشائية
تحقق للأسلوب دينامية وحركية مضاعفة من قبيل النداء : يا دارنا…. لكن الشاعر هنا حينما ينادي الدار لا يترجى جوابها بل يعبر على حيرته حين يقوم بالمقارنة بين الدارين *لقمان/الدار البيضاء ولا يجد سوى الردى والفناء
اسلوب النفي: لم أدفن- لا يورق.
اسلوب الامر : فاغمسي صبي: واذا كان الامر طلبا للشيء لكن هنا خرج الامر من معناه الحقيقي ليصل للتمني وتعبيره عن آماله ليتغير واقع الدار.
كذلك اسلوب الاستفهام : من أسرى ؟ متى يفيض التمر؟.
وهنا أيضا الاستفهام يبقى استنكاريا لا ينتظر جوابا بعينه بل هو متمنيات للذات الشاعرة وتجسيد قلق وارتباك ذات الشاعر وعدم قدرة استعابه قدرته على التغيير.
وتعدد الاساليب الانشائية له تفسير واحد هو ارتباك ذات الشاعرة وعدم استقرارها مما يجعلها تنتقل من اسلوب لآخر،
ونلفي أن ضمير المتكلم المفرد يطغى في النص (اخفي-انسل-اعيد جدع-بات في دمي…) وذلك يؤكد.على تحربة راهنة وحاضرة فهو يجسد الواقع المغربي المعاش لمدينة الدار البيضاء وكيف تنظر ذات الشاعر لهذه المدينة التي ربطها بالموت والفناء من خلال تعبيره ( موت ردى مقبرة …)
وننتقل بعد هذا للبنية الدلالية وتفكيك ألغاز الحقول الدلالية وسبر أغوارها
فالشاعر يستهل قصيدته بوصف دار لقمان فهو يرى فيها موائد للأمطار والخيرات لكنها كذلك تحمل الردى و الفناء مما يجعلنا أمام مفارقة و تناقض مفاده لماذا تظل دار لقمان وسط الفناء رغم خيراتها بلغة مليئة بالتضاد تدل على رغبة الشاعر في اضمحلال فناء الدار وتغير حالها الفاسد،
لكن ذلك لم يتأتى في المقطع الثاني إذ بمجرد حلول الصباح يندثر حلم الشاعر ويرى دار لقمان على حالها لم تتغير ،فيصلب رمحه على الجذار كدليل على الاستسلام ولا يقاوم ولا يناضل ،ويخفي فلول سهمه المتكسر ويدفنها وينسى النضال والثورة، وعلى حين غرة تأخذنا اللغة رغما عنا فننتقل معها من دار لقمان إلى الدار البيضاء ( يا دارنا البيضاء) وكأن الشاعر المغربي شبه منذ الأول الدار البيضاء وعتمتها وفسادها وخرابها وسقوطها وتخاذلها مقل ما وقع لدار لقمان
فيصب حاله وحال البيصاء في ظمإ الصحراء ففقد صوته وعجز عن الكلام ولم يعد يدعو للتغيير.
وفي الأخير يصمت الشاعر ويتوجه لمقبرة المدينة ويتساءل متى يدق الحبل الموتور وتعود الحياة لمدينته الخاوية التي حفرت في ذات الشاعر أسى عميق
فالشاعر المجاطي يجسد الواقع المغربي المعاش ويصوره كخراب وفناء ويقف أمام هذا الخراب بجمود نضال و دفن للثورة ،فبقيت ذاته مجرد ذات حالمة راغبة في التغيير غارقة في جلباب السقوط وبراثين الانهزام والمآساة , إلا أنه رغم عجزه استطاع أن يعري الواقع رغم استسلامه
وهذا مايدل على انتماء القصيدة لحيز القصيدة المغربية المعاصرة التي تتسم باستسلام الشاعر وعدم قدرته على تغيير الواقع وتأرجحه بين الحلم والرغبة في التغيير والغرق في السقوط والاندثار لهاته الأحلام
وهذا ما صوره المجاطي من خلال لغة قوية آخاذة للألباب تنزاح عن المألوف ويغلب عليها طابع الاستعارة التي تتفنن في إيصال الفمرة للقارئ من وراء حجاب فنجد ذلك مثلا في قوله : موائد الأمطار فيك والردى إذ استعار للمائدة أمطارا مما يدل على الخيرات وكذلك الردى الدال على الموت
ناديت ما أجابت السيوف: هنا استعار للسيوف الصماء فعل الجواب بعد النداء مما يدل على عجز الشاعر وموت قدرته، وبذلك لا تتسم اللغة هنا بالتقرير واللغة المباشرة.
وخلاصة الحديث أن القصيدة تقفت خطى التجارب الشعرية المغربية المعاصرة التي لطالما تميز شعراؤها بالسقوط أمام واقع مهزوم ،وبذلك جسد المجاطي هذا الواقع من خلال دمج دارين هما دار لقمان ودارنا البيضاء واللتان تهيمان في وحل الاندثار والفساد .
اترك تعليقا