ليس المطلوب من المفكرين الكبار تبسيط فكرهم تماشيا مع الجمهور. لأن ضوابط البحث الأكاديمية تفرض ذلك، من قبيل مناهج البحث و اللغة. فاللغة معيار مهم حين نتحدث عن الفكر، و كلما كانت اللغة فصيحة، خالية من الأخطاء و منسجمة، كلما كان وقع الفكر الذي تحمله فصيحا هو الآخر.
والمفكر ليس محكوم عليه بالنزول عند العامة، لأن ذلك يتطلب تضحية و وقتا و جهدا كبيرا، في محاولة تبسيط فكره. و الحال إنه بالرغم من قدرة المفكر على ترجمة فكره بطريقة تسمح للجمهور بفهمه، فإن الأمراض الاجتماعية قادرة على منع هذا التفاهم بين المفكر و أحد العامة، غير مبال أو لا يحس بانتمائه إلى هذا الواقع أصلا. أو ذهب ضحية أيديولوجية متطرفة لا تقبل الحوار !
و من هنا، بدأ تساؤلنا: من المسئول عن تبسيط فكر المفكرين؟ و إلى أي حد تحتاج مجتمعاتنا العربية إلى مثقف وسيط؟
إن المقصود بالمثقف الوسيط ، ذلك الشخص الذي يقوم بعمليات تحويل للفكر، تتناسب مع درجات فهم الجماهير من جهة – و لوسائل الإعلام دور مهم في هذا الشأن- كما إنه قد يكون معلما بالمدرسة أو أستاذا بالجامعة، من جهة أخرى، و هذا هو المثقف “التقليدي” الذي تحدث عنه “جرامشي”. ووصف المثقف ب”التقليدي” في هذا السياق ليس مدعاة لنكران جهوده و دوره المركزي داخل كل مجتمع. فالمعلم الذي يقوم بالتحويل “الديداكتيكي” هو مثقف وسيط. لأنه يعمل على تسهيل فهم المتعلمين، باعتبارهم ناشئين أقل خبرة بالعالم و ببحور المعرفة و أقل استعدادا لفهم بعض الأشياء و الظواهر. و ذلك دون اعتبار مشاكل التعليم و التعلم، و ظروف هذا التعليم بصفة عامة. بحيث أن لها وقع كبير على عملية الفهم و الإفهام.
و القول بأن المفكر الأكاديمي، الذي يلتزم بجداول عمل دقيقة – فتجده يدرس هنا و ينتقل إلى هناك من أجل إلقاء محاضرة أو حضور مؤتمر- لا يتسنى له اللقاء بالجمهور، لهذا السبب فقط، هو تجاوز. ناهيك عن ذلك، و بحكم مكانتهم الاجتماعية و حساسية آرائهم و توجهاتهم في بعض الأحيان، يصبح المفكرون في رحلة هروب دائمة من الجمهور، فيتجاوزه و يغدو أكثر لوما له أو أقل انجذابا إليه. و هذا أمر معروف خصوصا في الفكر الغربي، المتأثر بفلسفة “نيتشه” مثلا !
لذا، يكون للمثقف الوسيط، سواء كان جامعيا أو جمعويا أو صحفيا أو إماما، دور تحويل الفكر، بعد فهمه، مما يفرض كفاءة لغوية و خطابية، كي ينقله بطريقة أو بأخرى إلى الجمهور. و هو أمر صعب ليس بسبب محتوى هذا الفكر الذي يدعو للتجديد مثلا أو نقد التراث أو تجاوز مسألة أو الدفاع عن أخرى ، لكن تتجلى صعوبته في إمكانية وقوع سوء تفاهم أو رفض التفاهم من لدن الجمهور، لسبب أو لآخر. فيظن العامل البسيط إن ما يتحدث عنه الصحفي، على سبيل المثال، خلال برنامج ثقافي، لا يمت له بصلة. بل الأكثر من ذلك أنه من القائم ألا يفهم ما يقال، خصوصا إن كانت اللغة المستعملة أجنبية، مع أن “العربية- و هي ليست كذلك- أصبحت بمثابة لغة أجنبية صعبة الفهم و الاستعمال.
و الحديث عن الثقافة هو في نفس الوقت حديث عن الفكر و اللغة. حتى إن الثقافة لا تسمى ثقافة في غياب لغة تعبر عنها و فكر يؤسس لها و يتابعها عن كثب، فينتقدها و يغنيها و يدافع عنها حين تهاجم من الخارج أو من الداخل. فالمثقف “الوسيط” بين “المفكر الغارق” بين ضفاف الفكر، “المفكر في مشاكل أمته”، في حاجة ماسة إلى من يفهمه و ينقل فكره، حتى لا يفقد هذا الأخير فائدته و لا تضيع جهوده الهادفة إلى التغيير الإيجابي و الفعال. إن المثقف الوسيط، سواء كان “معلما” أو “ربة بيت”، مطالب بمواكبة مفكري ثقافته و غيورا عن أمته و عاملا على تحويل ما يكتب و ما يدون إلى خطوات عملية من شأنها الإسهام في تكوين “وعي جمعي” متناسق و عقلاني.
كريم الحدادي – مدينة مولاي بوعزة
اترك تعليقا