إنها سرمدية. بدون هوية أو تخفيها. دخيلة، ربما مهاجرة، أو مجرمة قادتها الصدفة إلى الاستقرار هناك. وحيدة. ليس لها غير “النافذة”. إنها كل ما تملك. إنها معبرها و سبيلها إلى الخارج حين تشتد عزلة الداخل. لا أحد يسأل عنها. و لا تسأل عن أحد. لا تجتمع بصديقاتها حول كؤوس الشاي و خيوط النسيج و حبات اللوز و زغاريد و قصص النساء الروتينية. إنها خارج ذلك تماما. وحدها و النافذة.
إنها عدوانية. شريرة. و تبدو و كأنها حكيمة، أو متصوفة، و وجدانية. غامضة، بحيث ليس لها وجود فعلي في ذاكرتي غير ما ذكرت. كنت صغيرا حينها و غير مبال بالتفاصيل. إنها حزينة. هذا ما أود أن أقول.
وحيدة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لا يعقل.إنه غير منطقي: هذا الوضع. إن المرء لا يستطيع، و هو شيء بديهي أن يعيش العزلة التامة و الكلية. إنه يركض وراء الخيال ركضا. يجري. يتهافت تهافتا نحو الخيال. إنه السبيل الوحيد للنجاة من الجنون. إنها مجنونة.
ربما لم يعد للخيال وقع في واقعها. فوقعت في قوقعة. وقعت في القاع. اقتربت من القسوة. قاربت الخير و الشر. قطعت الأمل بالنجاة. جاءت من الجحيم، فوجدت جوا يشبه الجنة، حين اكتشفت أن جو الجنة سراب و ما ذلك إلا امتداد للجحيم. إنه معذبة في الأرض كما قال “فرانز فانون”. إنها مسخت كحشرة “فرانز كافكا”. إنها زوجة “رفعة الجمال” ، قد خيم عليها اليأس و خيبة الأمل.
إنها لا تعترض طريقي فحسب. إنها تعترض حقي في اختيار تيمة يومي، بل ليلتي كذلك. أو ربما أنا الذي أندفع نحو موضوعها و عمق غرابتها عن الواقعي. أم أن الواقع ليس إلا امتدادا للوهم؟ ربما يكون وهما أقرب إلى الصواب هيئة و طابعا. أو لنقل إنه الفضول. إذ يجوز السؤال عن أصلها و جذورها. في ظل غياب ذلك، فالفضول لن يهدأ له بال. إنها تلك الرغبة في المعرفة، مصحوبة بوعي تام بأن ما سيتم الكشف عنه لن يثير أكثر من سؤال آخر، و هلم جرا.
ترى ما الذي سيدفعها لاعتزال الحياة؟ و كيف استطاعت تمضية عقود من الزمن لوحدها، في غرفة، هي ليست لها. أ اختارت ذلك؟ كيف تستقبل الساعات؟ ماذا تعرف عن العالم؟
إن الوحدة وحدها تصيب بالجنون، تضع حدا للحياة. و الحل في التغلب عن “العزلة” حين يحذف، تظل الوحدة تنتج في الفراغ عوالما تصبح هي نقيض الواقع. إنه الجنون بحذافيره. إنها إفراط في حدة الحنين، و سفر في غياهب الحسرة عبر الأحلام، إنها حقد الزمن على من حوله. إنها الغلو في كره الذات و كره الوجود و الكلام. إنها حالة الانهيار اللاعقلاني المنفجر تحت الحفر، لا يسمع صيته ولا صداه، لا يسمع إلا الصمت. و ليس في حال الصمت داع للصراخ.
كريم الحدادي – مدينة مولاي بوعزة
اترك تعليقا