فكَّرَ مليا وقرر أخيرا أن يسافر على متن حافلة الكرامة إلى مدينة أخرى تبعد بثلاثين كيلومترا عن مقر عمله ليروح عن النفس وينسى ولو نسبيا روتين العمل ، تأنَّق وتعطَّر وارتدى كمامته الزرقاء التي لم يعرف إلى وقت سفره سبب ارتدائها ؛ هل خوفا من الوباء أم….، شاءت الأقدار أن يجلس بجانب شیخ کبیر ينم وجهه عن خبرته الكبيرة في الحياة قد يكون أحد خريجي مدرستها ، تبادلا أطراف الحديث حول آخر مستجدات الوباء ومواضيع أخرى لا تهم صاحبنا ، انبهر بثقافة الرجل واكتفى بالاستماع إلى ما يقوله أحيانا والنظر في وجهه الذي يزداد عمق تجاعيده عندما يبتسم أحايين أخرى ، عيناه الغائرتان يُجهِد في إخراجهما حينما يريد أن يؤكدَ رأيه أو يفنِّدَ فكرة أحد معارضيه ، أُعجب الشاب بحديثه و نظرته إلى الأشياء والحياة مما جعله يطلب منه أن يتحفه بقصة أو طرفة حدثت في زمن الماضي ، قبل الشيخ الطلب وبدأ يشمر على سواعده كمن يريد أن يحفر أرضا ، وقال : يحكى أن رجلا له ولدان أحدهما يسمى :”حسّون” والثاني يدعى :”حسن ” هذا الأخير الذي يحبه أبوه حبّا کبیرا فيما حسون أصيب بمرض أنهك جسده وعقله ، يئس أبوه من علاجه، وذات مساء بعيد صلاة العشاء بقليل طرق رجل باب منزلهم فتحه حسن فوجد سائحا أجنبيا بالكاد فهم ألغاز إشاراته عاد فورا ليخبر أباه بذلك ، خرج الأب بجلبابه الفضي وتصافح مع الرجل ورحّب به ،
بعد وجبة عشاء خفيفية قرر السائح أن يتابع طريقه ويغادرهم ، طلب منه الأب أن يتكلف بعلاج طفله المريض قبل الفرنسي اقتراح الرجل ، ودعهما حسّون ورکب السیارة لأول مرة، غمرت الفرحة قلب أبيه لأنه تخلص من ابنه السقيم ، مرت عشرون سنة فتزوج حسن وأنجب بنتين أما أبوه فطريح الفراش بسبب مرض عضال ، فيما حسون عولج في مستشفى الأمراض النفسية ضواحي باريس مما أهله ليتابع دراسته وتخصص في طب المسنين ، قبيل الاستقلال بعشر سنوات جاء حسون رفقة ثلة من الأطباء الفرنسيين إلى المغرب لمكافحة جائحة تفشت أنذاك خاصة في البوادي ، فقدم لأبيه علاجا وأنقذه من موت محتوم دون أن يخبره بأنه ابنه حسون ، واكتفى بوضع رسالة في جيب معطف أبيه تتضمن التفاصيل وبعض الأوراق المالية ، وكان مضمون الرسالة مؤثرا جدا حيث قال فيه بالحرف: ” إن الطبيب الذي قدم لك العلاج هو ابنك حسون ، لماذا كنت تقول لأمي حينما كنت مريضا ، لو تخلصنا من حسون لعشنا حياة هنيئة ولماذا كنت تفضل حسن علي؟! لا أنتظر منك الجواب يا أبي ، متمنياتي لك بالشفاء العاجل …”
أخبرهما سائق الحافلة بنهاية الرحلة شَكر الشابُّ الرجلَ وابتلعهما السوق المركزي للمدينة.
علي أومنال – مدينة خنيفرة
اترك تعليقا