إذا بحثنا في التاريخ العربي سنجد أنه تاريخ دول وملوك أكثر من كونه تاريخ امم وشعوب، فالمفهوم الأكثر ارتباطا بالتحول والتغير الشعبي، والمجسد لإرادة الشعوب في التغيير والتأثير على أي نظام قائم هو “الثورة” فالشعوب العربية على طول مسارها التاريخي لم تعرف أي ثورات بمعناها الشامل الاجتماعي والسياسي وما تحمله معها من متغيرات على غرار بعض الثورات الغربية كالثورة الفرنسية. لذلك فمصطلح “الثورات العربية أو” الربيع العربي” جاء معبراً عن هذه القفزة النوعية في التاريخ العربي، إذ انه ولأول مرة تثور الشعوب العربية في وجه أنظمتها السياسية القائمة، وكانت تونس هي مهد هذه الثورة، وبداية انتشارها في باقي الأقطار العربية. ويرى الكثير من المهتمين أن تونس كانت هي النموذج الأنجح للثورات العربية، والمثال الأفضل للديمقراطية والإرادة الشعبية، خاصة بعد فوز الأستاذ “قيس سعيد” بالأغلبية الساحقة في الانتخابات الرئاسية 2019.
عرف المسار الديمقراطي في تونس عدة محطات مهمة، بداية من ديسمبر 2010 بعد أن قام محمد بوعزيزي بحرق نفسه، وما خلفه هذا الحدث المهم من احتجاجات في كل المدن التونسية على البطالة والفساد والقمع. وفي يناير 2011 فرّ الرئيس زين العابدين بن علي إلى السعودية والثورة التونسية في أوجها. أما في أكتوبر 2011 فاز حزب النهضة الإسلامي المعتدل، الذي كان محظورا في عهد بن علي، بأغلب المقاعد وشكل ائتلافا مع بعض الأحزاب العلمانية للتخطيط معا لوضع دستور جديد. ولكن بعد مقتل شكري بلعيد زعيم المعارضة العلمانية واستقالة رئيس الوزراء، في ديسمبر 2013 تنازل حزب النهضة عن السلطة، وحلة محله حكومة التكنوقراط. وبعد أن اقر البرلمان في يناير 2014 دستورا جديدا يضمن الحريات الشخصية وحقوقا كاملة للأقليات ويقسم السلطة بين الرئيس ورئيس الوزراء، فاز الباجي قائد السبسي في أول انتخابات رئاسية حرة وفي أغسطس 2016 اختار البرلمان يوسف الشاهد رئيسا للوزراء بعد الإطاحة بسلفه بسبب بطء السير في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية.
في ديسمبر 2017 كان الاقتصاد التونسي على مشارف ازمة خانقة، خاصة بعد الارتفاع الحاد الذي شهده العجز التجاري وتدني العملة إلى أضعف مستوياتها في، ما جعل البنك المركزي يرفع من أسعار الفائدة إلى مستويات قياسية، وبلغ التضخم الى نسبة 7.8 في المئة، ما أدى الى مسيرات احتجاجية في العديد من المدن التونسية بسبب تراجع مستويات المعيشة بفعل المشاكل الاقتصادية، وقد حاولت الحكومة أن تبذل جهودا لتقليل العجز عبر الخفض من الدعم وزيادة الضرائب. أما في مايو 2018 فقد تمكن حزب النهضة من تحقيق أداء أفضل من الأحزاب الأخرى في الانتخابات البلدية لكن نسبة الإقبال على التصويت بلغت 34 في المئة فقط بفعل مشاعر الإحباط السائدة بسبب الاقتصاد. وفي يوليو 2019 توفي السبسي، وتم القيام بالانتخابات الرئاسية التي وصل فيها أستاذ القانون الدستوري “قيس سعيد” الى جانب “نبيل القروي” إلى الدور الثاني، الأمر الذي اعتبر “زلزالاً انتخابيا” وإنجازاً استثنائياً، ذلك أن قيس سعيد دخل غمار هذه الانتخابات بتمويل ذاتي بسيط ورفض المنحة المقدمة من الدولة للقيام بالحملة الانتخابية بحجة أنه مال الشعب، كما اعتمد في حملته الانتخابية على مجموعة من المتطوعين الشباب الذي اختاروه واختاروا دعمه إلى أن فاز بالأغلبية الساحقة في هذه الانتخابات وأصبح رئيسا لتونس بتاريخ 23 أكتوبر 2019.
ما يمكن استنتاجه ممّا سبق من التحولات السياسية التي عرفتها تونس منذ اندلاع الثورة، هو تمكن تونس من الصمود في وجه التغييرات والتحولات والتي كانت نتيجة “الربيع العربي” على عكس بعض الدول الاخرى في المنطقة، كما توفقت تونس في سن دستور تقدمي يضمن الحقوق والحريات الفردية والعامة، وتمكنوا أيضا من تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية مستقلة ونزيهة، وبناء مؤسسات تعديلية فريدة من نوعها في المنطقة، وبناء مسار ديمقراطي متميز، ساهمت في بلورته العديد من العوامل أبرزها وحدة المجتمع التونسي وغياب العوامل الطائفية والعرقية والدينية، وبعد تونس عن بؤرة الصراعات في الشرق الأوسط، الى جانب الدور الذي لعبته التقاليد الحزبية، والقوى السياسية كحركة النهضة، علاوة على غياب التدخل العسكري، ما حال دون تحولها (الثورة) الى حروب اهلية و اثنية وطائفية كما حدث في بعض الدول العربية كاليمن وليبيا وسوريا.
وكان فوز قيس سعيد في الانتخابات الرئاسية بمثابة إحياء لآمال الثورة التونسية، هذا الرئيس الذي تقدم للانتخابات الرئاسية دون ماكينات إعلامية ولا لوبيات سياسية ولا حتى إمكانيات هائلة أو لافتات عملاقة، أستاذ في القانون الدستوري لا ينتمي إلى أي حزب، لا علاقة له بالسياسة مختلف عمن سبقوه إلى الرئاسة، مختلف في طريقة حديثه وتفكيره وتصرفاته وقناعاته، وهو مناهض شرس للنظام السابق ولنواقص الحكومات المتعاقبة منذ العام 2011 وداعم قوي لمطالب الثورة التونسية، ما يعطينا فكرة عامة حول نضج الشعب التونسي، واستفادته من تجاربه السابقة، فالشعب لم يعد يهمه اي أحزاب او أيديولوجيات، لا يهم اليساري او الاسلامي او اي شيء اخر. أصبح همه الأكبر هو البحث عن “الأحزاب الوظيفية” عن الفاعل السياسي الحقيقي، عن التغيير وتحقيق الديمقراطية والمواطنة، وتلبية مطالب الشعب الاجتماعية والاقتصادية وكذا السياسية بشكل سلمي ديمقراطي وحضاري.
إن ما تعيشه تونس والشعوب العربية عامة اليوم، ليس وليد لحظة أو صدفة أو نتيجة لمسار عشوائي، فالثورة بمعناها العام ليست بالعبثية ولا تأتي من العدم، بل هي نتاج تراكمات تاريخية، وتونس أحدثت ثورة في مسارها الديمقراطي في المنطقة العربية، فالثورات العربية كانت نتيجة طبيعية لتراكمات منذ سنوات عديدة من صبر الشعوب وتحملها للحكام والرئساء والأنظمة العربية الناتجة عن الاستعمار، والتي باعت الزيف والوهم للشعوب في ظل شعارات القومية والديمقراطية وصراع الايديولوجيات الاسلامية واليسارية والعلمانية، في حين لم يعكس هذا الامر اي برامج سياسية فعالة أو تنمية اقتصادية او اجتماعية من شأنها ضمان العيش الكريم للشعب. ورغم أن ثمن هذه الثورات كان غاليا، خصوصا في بعض الدول العربية كاليمن وسوريا، دون أن نغفل عن دور الأنظمة الحاكمة التي عملت على تسليح هذه الثورات بشكل مباشر او غير مباشر، واستغلال الصراع وقضايا الإرهاب لتبرير تصفيتها لشعوبها.
والامر لم يقف عند هذا الحد، فهذه الموجة الأولى من الثورات العربية كانت عملية مفاجئة ساهمت في زعزعة الانظمة القائمة، وبعد سنوات من النضال والصراع الذي أصبح دمويا في كثير من البلدان، سرعان ما بدأت الموجة الثانية من الثورات، في الجزائر ولبنان والعراق وهي إحتجاجات وحركات شعبية بصدد تصحيح المسار الثوري الشعبي الذي بدأ منذ 2010، بشكل عقلاني سلمي وحضاري (مثل إحتجاجات الجزائر ولبنان التي تميزت بسلميتها الكبيرة) وكثير منها (البلدان) ترى في تونس مثالا يحتدى به لما وصلت إليه في مسارها الديمقراطي، ما يجعل تونس بداية الثورات العربية ونموذجها الأنجح، والشرارة الملهمة للموجة الجديدة من هذه الثورات.
اترك تعليقا