بالرغم من أن الجامعة هي مركز من مراكز الحفاظ على تراث الأمة وترسيخ هويتها الوطنية، إلا انه يسود في أواسط المثقفين انها من أكثر المؤسسات اللإجتماعية عالمية. و ينبع هذا الانطباع بالأساس من كون الجامعة هي مصدر المعرفة، و المعرفة لا وطن لها، و بفضلها و مع تراكمها تتأسس الحضارة الإنسانية و تنمو و تزدهر بفضل عمل كل الأمم و الشعوب. الا ان عالمية الجامعة ليس مجرد انطباع عابر، بل انها واقع وحقيقة ظاهرة لكل متفحص في تاريخ الجامعات في العالم لها أصولها و تقاليدها. و من بين اكثر التقاليد الضاربة في عمق التاريخ رحلة الطلاب للبلدان الآخرى لتحصيل العلم و اكتساب المهارات. وتتجلى عالمية الجامعة كذلك في ان كل التطورات العالمية الحديثة في العلم والثقافة والتكنولوجيا تقترن بها، فكل جديد في العلوم تجد له صدى بين أعضاء الهيئة الاكاديمية بالجامعات العالمية و كل اساتذتها و طلابها الباحثين ليس فقط لإتقانهم اللغات الحية و تواصلهم مع طلبة و أطر اكاديمية في الجامعات الأخرى، و لكن لتعلقهم بالمعرفة و انتاجهم لنظريات جديدة الى بقية انحاء العالم مما يجعل الجامعة حلقة وصل بين العالم و الوطن.
ومما رسخ عالمية الجامعة كذلك هما الثورتان الصناعية والتكنولوجية، اللتان جاءتا بوسائط حديثة و متطورة و وسائل اتصال عالية و عصرية حتى اصبح العالم يقترب بعضه من بعض حتى بات كالقرية الصغيرة بفضل نمو السياحة و التوسع الحاصل في شبكة المعلومات الدولية “الإنترنيت” و ما بات يعرف الآن بوسائل التواصل الاجتماعي خاصة العالم الأزرق “الفيس بوك” الذي لا يفوت صغيرة و لا كبيرة إلا احصاها. كل هذا وذاك أسهم في تدفق المعلومات وتبادلها بين مختلف الجامعات في مختلف أنحاء العالم.
امام كل هذه العالمية التي عرفتها الجامعة و التقدم الذي عرفته، فإن العالم من جهة أخرى يسير على وقع كم هائل من الأزمات و المشكلات العويصة التي أضحت تثير القلق و التأمل. فالنمو الاقتصادي و المادي الذي عرفه الأنسان لم يجعل منه إنسانا أسعد و أهنأ، بل رافق هذا النمو إزديادا هائل في نسبة الفقر في العالم بسبب سوء توزيع الثروات و احتكارها في أيدي بعض البلدان بدل أخرى. علاوة على تصاعد الروح القومية و تفاقم النزاعات المسلحة التي تشرد ألاف الأطفال و تذهب ضحيتها العديد من النساء و الشيوخ. و لم تسلم الجامعة كذلك من سلبيات في الآونة الخيرة ، إذ التقدم الذي احرزه العالم في في مجال تكنولوجيا المعرفة من شأنه أن يعمق الهوة المعرفية –ومن تم الاقتصادية و الاجتماعية- بين البلدان لعدم تساويها في القدرة على امتلاك الوسائل التكنولوجية الحديثة و الإستفادة منها، الشيئ الذي سيؤدي بشكل أو بآخر الى سيادة ثقافة معينة و اندثار التنوع و الإختلاف الثقافي الإنساني، فضلا عن قيام جامعات البلدان المتقدمة و تهافت طلاب و علماء البلدان النامية عليها في إطار ما يسمى بهجرة الأدمغة مما سيعمق الهوة الحاصلة بين البلدان المتقدمة و الأخرى النامية التي تفقد كل خبرائها و علمائها و تقنييها و ايديها العاملة.
أمام كل هذه الأزمات يتساءل الأكاديميون ما إذا كان بوسع الجامعة ان تسهم في إيجاد حلول لهذه المشكلات ووضع حد لهذه الحروب بين الدول و النزاعات الأهلية، و ما إذا كان بوسع الجامعة القضاء على الإرهاب و ترسيخ ثقافة الإختلاف بدل التطرف، و الوئام بدل الإقتتال، و أرساء نوع فعال من التعاون الدولي جاد و هادف و معطاء للدول النامية و الدول المتقدمة يرمي إلى ترقية الإنسان إلى مستوى الإنسان العاقل و المساهمة في إسعاده. أومن ان ما على الجامعة فعله حقا هو انتاج جيل من القادة يؤمن بالقيم الإنسانية السامية المتمثلة في التسامح و المساواة و الإختلاف و العدل و السلام و الحرية، حتى يكون على اتم استعداد لاحترام الآخرين و تفهم طبائعهم ووجهات نظرهم. و حتى نصل إلى هذه الدرجة من النضج، يتطلب من الجامعة -خاصة في البلدان النامية- تطوير أهدافها و مناهجها و هيئتها الأكاديمية و عصرنتها لتستجيب لروح العصر و تلحق بالركب. يتوجب عليها ان تدمج البعد الإنساني في مناهجها التعليمية حتى تعد طلابها على حب الانسان مهما كان لونه او عرقه او مبدؤه في الحياة، و أن تخصص جزءا من أبحاثها لإيجاد حلول للمشاكل الإنسانية السالفة الذكر. و حتى يتسنى للجامعة قيادة التعاون و التشابك الدولي بالشكل الصحي و الصحيح، عليها ان تضرب المثل الأمثل و العملي في خلق تعاون مثمر بينها و تغذي تربته بسماد الجد و العزيمة و الإجتهاد. و ذلك عبر خلق اتحادات جامعية وطنيا و دوليا، بحيث يشمل التعاون المساعدة في إعداد الأطر العلمية و الإدارية و تدريبها، و إنجاز بحوث و إصدارات مشتركة و تبادل المعلومات و المناهج على المستوى المعرفي، و تبادل الأساتذة و الباحثين و الطلبة على مستوى الهيئة الأكاديمية حتى تتحقق للجامعة صفة العالمية بكل جدارة.
انه لعمل رائع منك أخي عثمان. فيه تدرجت من ما هو عالمي ومقبول حول الجامعة إلى ماهومتعلق ببعض الجامعات دون بعضها الأخر وإلى ما هو سلبي يسير بالجامعة نحو هاوية المجهول. يبقى السؤال إلي سيستمر التحليل دون العمل من أجل التغيير؟ وإلى متي ستنذر ثقافات تحت غطاء نشر المعرفة؟